Forum

Actu USA

Actu EU

Sommaire

Nouvelle Galerie photo

Espace adhérent

Ali El Saleh لماذا تخلفنا نحن وتقدموا هم؟ PDF Print E-mail
User Rating: / 6
PoorBest 
Written by Ali El Saleh   

لماذا تخلفنا نحن وتقدموا هم؟

 

سيداتي سادتي، مساء الخير

لماذا تخلفنا نحن وتقدموا هم؟ يكاد هذا التساؤل أو ما يشبهه، أن يحدثَ لدينا عاهة مستديمة.

بداية، يمكن إدراج محاضرتي الليلة في جملة الجهود الجارية منذ فترة، لإعادة قراءة التاريخ العربي بشكل مغاير لما تم بهذا الشأن من قبل. لكني، خلافا ربما لما يتوقعه البعض منكم، لن أجري مقاربتي للموضوع من خلال تقريظ للعقائد والمذاهب في حد ذاتها، دينية كانت أم سياسية، كالتكلم مثلا عن نظرية الاستبداد الشرقي في الماضي والحاضر أو عما دعي بأسلوب الإنتاج الآسيوي أو عن الأحكام التجارية في الفقه الإسلامي، فقد جرى التكلم عن ذلك في السابق مرارا وتكرارا.

بالمقابل، لست من الذين ينكرون تأثير العقائدِ والمذاهب في الظواهر ِ الاجتماعيةِ ومنها الاقتصادية، لكني أعتقد بأن القوى المحركة في الحياة الاقتصادية هي التي تجبر العقائدَ على التكيف في نهاية الأمر مع متطلبات واقع الشعوب الاجتماعي، وليس العكسُ عموما.

في محاضرتي جملة من التساؤلات والعناوين، يمكن أن يشكل كل منها على حدة، موضوعا لمحاضرة. حاولت فيها أن أبسط وأن أختزل قدر الإمكان، فالحِقبة التاريخية التي تتناولها ممتدة، ومواضيعها متشعبة.

 

تلخصت الإشكالية العامة التي كانت تحكم الوعي النهضوي العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى مطلع السبعينات من القرن الماضي، في ذلك السؤال المشهور الذي تردد في كل مكان من الوطن العربي والعالم الإسلامي تحت تأثير حركة الأفغاني وعبده: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ أما اليوم فقد أصبح التساؤل الذي يعبر عن الوعي النهضوي الجديد في الساحة الفكرية العربية، لماذا فشلنا سابقا، ونتعثر الآن؟

هناك من يعتقد في الغرب من بين العلماء وهم كثر، أن الإسلام هو الذي أدى بأتباعه إلى مستنقع التخلف والركود، عندما خنق عندهم كل مبادرة اقتصادية على عكس ما حدث معهم في مجتمعاتهم الغربية نتيجة الثورة الرأسمالية. قلائلٌ هم من بين هؤلاء العلماء من يتعرضْ لإشكالية التقدم والتخلف لدينا على نحو من الإنصاف، واعتمادِ مقاييسَ أكثرَ علميةًٍ حول العلاقة القائمة بين العقائدِ في مجتمعاتنا من جهة، وواقعنا الاجتماعي من جهة أخرى.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو إذا كانت الرأسمالية كما يعتقدون هي من وفر في الأزمنة الحديثة سبلَ التقدم الحضاري في أوروبا وفي غيرها من البلدان كاليابان مثلا، فلماذا لم يحدث التطور نفسُه أو ما يشابهه، في البلدان العربية في ماضيها وحاضرها؟ وهل في مقدور هذه البلدان الآن أن تختار نظاما مغايرا يلائمها، بعد أن شارفت الرأسمالية نفسها، على ما يظهر، على تحول جذري آخر في التاريخ الإنساني، مغاير لما عرفناه عنها حتى الآن؟

يشير بعض علماء الاجتماع الغربيين من أمثال ماكس فيبر وماركس أيضا، إلى أن الرأسمالية الحديثة، عنوانُ الازدهار والتقدم، وُلِدت في العصر الوسيط الأوروبي المتأخر من رحِمي رأس المال التجاري، أي من خلال تراكم الأموال الحادثِ نتيجة التوسع في العلاقات التجارية، ومن نشاطِ قطاع التبادل المالي أي ما دعي لاحقا بالمصرفي.

من المشاهد في هذه المرحلة، نشوءُ قطاعات مالية مماثلة في العالم الإسلامي القروسطي، مما يثبت أن الإسلام لم يشكلْ يومها عائقا للتطور في هذا الاتجاه. ففي بلاد الشام خلال فترة الحروب الصليبية مثلا، موضوعُ أطروحتي الجامعية، يلاحَظ تواجدُ قطاعات رأسمالية واضحةِ المعالم فيها، من تجارية ومالية، أي مباشرة خلال الفترة ما قبل الرأسمالية في الغرب، بل ومتقدمةٍ أيضا على مثيلاتها في البلدان الأخرى. كان التداول بالنقد الورقي رائجا في الحياة التجارية يومها. وهو ما شكل لاحقا خطوة مهمة في تطوير المعاملات المصرفية في النظام الرأسمالي. فالتعامل بالحوالات ومكافئها بالفرنسيةaval ، وبالحوالات الخارجية أي بمعاملات السُفتجة، فكانت في عصب المعاملات الائتمانية. ففي العام 1172م مثلا، استلم صلاح الدين الأيوبي سفتجة بمبلغ 20 ألف دينار مسحوبة على تجار من الشام يتعاملون مع أقران لهم في العراق. بل وحتى عقود المخاطرة في الشرع الإسلامي، كانت معروفة باسمها العربي mohatra باللاتينية لدى تجار البندقية الذين كانوا يتعاملون في مدينتهم بنقود دعيت أيضا باسمها العربي mancus أي المنقوش حيث ضربت بدار السكة لديهم التي أصبحت zecca بالإيطالية.

وإلى جانب ما تقدم، تواجدت قطاعات اقتصادية واسعة أخرى يغلب عليها طابع الاستهلاك الذاتي الذي كان يميز الاقتصادَ الريفي. يرى البعض في ذلك أحد الأسباب التي يمكن أن تكون قد أدت إلى تعثر التحول يومها نحو رأسمالية مشابهة لتلك التي عرفتها أوروبا. فهيمنة شكل ِ الاقتصاد الريفي خارج المدن على ما عداه من أنشطة اقتصادية، يمكن أن يعيق تدفقاَ أكبر للسلع نحو الأسواق في المدن، وتشكيلَ فائض سلعي ينشِّط ُ المتاجرة مع البلدان الخارجية، ويشجع في مرحلة لاحقة على إحداث ثورة في السلع المصنعة من أجل التصدير في مصانع حقيقية كما حدث في الغرب، وليس استمرارُ إنتاج السلع في ورش ودكاكين محدودة الطاقة. لكن، كما سنرى لاحقا من خلال المحاضرة، أن هذا التفسيرُ ليس كافيا لوصف التطور الذي حدث لدينا، عدا عن أن شكل الاقتصاد الريفي في أوروبا نفسِها بقي، بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، قرونا عديدة يسيطر على ما عداه من نشاطات اقتصادية أخرى هناك، ازدهرت خلالَها الحياة الاقتصادية في دار الإسلام إلى أبعد الحدود، بينما تراجعت عندهم حتى درجة التلاشي.

من جهة أخرى، ما يزال الاعتقاد سائدا من أن المرحلةَ َ الإقطاعية في التطور الاجتماعي، تشكل مؤشرا ضروريا على قرب الانتقال إلى المرحلة الرأسمالية بل وتؤسس لها.

هنا يستدعي نشوء الدولة الإسلامية في تاريخ المنطقة، والشكل الذي اتخذته في بلاد الشام خاصة خلال فترة الحروب الصليبية، الملاحظاتِ التالية:

يختلف الإقطاع الإسلامي عموما عن مثيله في الغرب، فيما يلي:

بينما عكس نشوء الإقطاع في الغرب بدء ظهور نوع ما من التنظيم السياسي والإداري في الأقاليم الأوروبية المختلفة، حيث غاب فيها من قبل أي تأثير لتنظيم سياسي مركزي قوي، جاء ظهور الإقطاع في الدولة الإسلامية كمؤشر على انحسار السلطة المركزية للدولة، وبدء انهيار إدارتها المالية ونظامها الضريبي.

لم يتمْ هذا التطور نحو النظام الإقطاعي في الدولة الإسلامية في مرحلة انحسار للموارد المالية في الاقتصاد الريفي السائد كمصدر وحيد للثروة، كما حدث عند الإقطاعيين الغربيين، مما اضطرهم لاحقا فقط، إلى التوجه نحو المدن في محاولة للسيطرة على مواردها المالية. بينما بدأ الإقطاع الإسلامي في الظهور أيام الخلافة العباسية في القرن العاشر ميلادي، إبان مرحلة تاريخية شهدت نهضة تجارية كبرى في بلاد الرافدين، شكلت أكبر ثورة تجارية في التاريخ الإسلامي.

أما في بلاد الشام، فتم هذا التحول التدريجي نحو النظام الإقطاعي في العصور اللاحقة، خلال مرحلة من الضعف الاقتصادي النسبي، وانحسار التجارة السورية في الأبيض المتوسط بسبب حصار السواحل الشامية المتواصل من قبل الأسطول البيزنطي فيما بين القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أولا، ومن بعده احتلالُ المرافئِ ِ البحرية على امتداد هذا الساحل من قبل الصليبيين، خلال قرنين آخرين من الزمن بدءا من القرن الثاني عشر ميلادي، وتعثر التجارة البرية في البلاد الشامية نتيجة الاحتلالات والحروب.

تعمّق الإقطاع لاحقا في بلاد الشام في ظل دولة المماليك فيها، عن طريق منح إقطاعات لأمراءِ العسكر مقابل خدماتهم للدولة، تماما كما حصل في بدء النظام الإقطاعي في الغرب، مع تضمينهم ريع هذه الإقطاعات التي كانت تتخذ أشكالا مختلفة من أراض زراعية وغيرِها، لضمان إمداد خزينة الدولة بعوائدَ ماليةٍ ثابتة، في ظل رقابة مشددة للإدارة المملوكية المركزية. لكن هذه الإقطاعات بقيت غير وراثية خلال الفترة المشار إليها في الديار الشامية، بخلاف مثيلاتها الأوروبيات التي كانت في أحيان كثيرة أقوى من السلطة المركزية للملوك في الغرب، وحتى في مملكة القدس الصليبية كان الأمراء الإقطاعيون في الساحل السوري أقوى من الملك نفسه في القدس.

بكلمات أخرى، بينما ظهر الإقطاع في الغرب زمن ضَعف السلطة المركزية هناك، وسيطرةِ الاقتصاد الريفي كمصدر شبه وحيد للثروة، نرى تحولا مشابها يتم في دار الإسلام خلال سيطرة دولة مركزية قوية في بغداد، في ظل نشاط اقتصادي متعدد الألوان من زراعة، وتجارة، وحرف صناعية رائجة، ليصل في مرحلة لاحقة إلى نظام الإقطاعات العسكرية في بلاد الشام، في ظل دولة مركزية قوية زمن الأيوبيين والمماليك في دمشق والقاهرة، لكن مع بدء أفول الأنشطة الاقتصادية المتعددة فيها، لأسباب لا علاقة مباشرةَََ ً لها بعقيدة ما، شرقية كانت أم غربية.

فقد جرى عموما التحرك في الدولة الإسلامية للأخذ بنظام الإقطاعات، لأسباب مغايرة لتلك التي تم بموجبها هذا التحول في أوروبا، حيث افتقرت الدولة هناك منذ البدء إلى العائدات المالية اللازمة لها. بينما يكمن سبب ذلك في بلاد الشام، من أن الموارد المالية اللازمة للدولة الإقليمية فيها بعد انهيار السلطة المركزية في بغداد، لم تعد كافية لمجابهة الأعباء المالية المتزايدة، والناتجة معا عن الغزو الصليبي، والهجمة المغولية المدمرة. هكذا نرى، أنه بينما تحرك الأمراء الإقطاعيون في الغرب من الريف حيث كانوا يتمركزون، نحو المدن للاستيلاء على موارد مالية إضافية لهم على حساب أهل المدن الأوروبية، بعد قصور الاقتصاد الريفي هناك عن تغطية احتياجاتهم المالية المتزايدة، نرى أن الدولة في بلاد الشام تنطلق من حواضرَ الأقاليم حيث تتمركز السلطة السياسية، باتجاه الريف والمدن على حد سواء، لسد العجز الناشئ عن قصور النظام الضريبي السابق في تأمين الموارد المالية اللازمة للدولة لدعم المجهود الحربي المتعاظم، وبسبب خروج مرافئَ اقتصاديةٍ حيوية لها، خارج سيطرتها بفعل الاحتلال الصليبي والغزو المغولي، وما نتج عن ذلك من تدمير، وتشريد، ونهب للموارد العينية والمالية على حد سواء. مع ذلك، يبقى التشابه كبيرا بين النظامين الإقطاعيين في محاولتهما الاستيلاء على مصادر الثروة، وإن اختلفت الأهداف والسبل إلى ذلك.

وبينما من المشاهد خلال هذه الفترة، أن أصحاب المال والجاه في المدن الشامية من تجار، وحرفيين، وملاًك مدينيين، أي ما سمي لاحقا بالطبقة البرجوازية، لم يشاركوا في الحكم والسلطة، نرى أمثالهم في المدن الإيطالية في ذلك الحين، بل أيضا في المدن الشامية تحت السيطرة الصليبية، يشاركون الأمراء الإقطاعيين في إدارة شؤون الإمارات الصليبية.

لن أتطرق في هذا الموضع، إلى تفاصيل أكثر بهذا الشأن. لكني مع ذلك، أكتفي هنا بالقول من أن نمو سلطة برجوازيي المدن الإيطالية الاقتصادية والسياسية مثلا، لم يؤدِ هو الآخر عندهم إلى التحول يومها نحو النظام الرأسمالي المشاهد في مدن الشمال الأوروبي في العصر الوسيط المتأخر. كما لم يحدث تحول مشابه في الدولة البيزنطية المسيحية الشرقية التي كانت تسيطر على الملاحة في الأبيض المتوسط قبل الفتح العثماني، ولا في المملكة الإسبانية المسيحية الغربية بعد اكتشاف أمريكا ونهب ذهبها. أي أن عدم التحول إلى نمط شبيه بالنمط الرأسمالي السائد في شمال أوروبا، لم يحدثْ في تلك الحقبة التاريخية بسبب عقيدة دينية معينة. بل نرى أن منظومةً ً كاملة، يمكن دعوتَُهَا بِ"منظومة البحر الأبيض المتوسط"، لم يتم فيها هذا التحول. كما أن ما يعتقده البعض من أن أسباب التحول نحو الرأسمالية في الشمال الأوروبي جاءت حصرا نتيجة للمجابهة التي حصلت هناك بين نظام الإنتاج الإقطاعي المتأخر والطبقة البرجوازية الناهضة في المدن الأوروبية، فإن هذا الاجتهاد ما يزال قيدَ البحث والتمحيص، ولم يجد بعدُ الجوابَ الشافيَ عليه.

ويلاحظ أيضا من مجريات الحياة الاقتصادية في بلاد الشام خلال الحملات الصليبية وإلى آخر العهد المملوكي، أنه عندما كان يحدث هناك تضارب بين التشريع والتطبيق، كانت متطلبات المجتمع في مواجهة التحديات يومها هي التي تفرض نفسها على ما عداها من اعتبارات أخرى. وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى ما عرف يومها بأدبيات الحيل، والرسائل والكتب التي كتبت حول الخدع القانونية لإجراء صفقات تجارية تتفق شكلا مع أحكام الشريعة الإسلامية دون المساس بمضمونها فيما يتعلق مثلا بعدم جواز التعامل بالربا. وكان المذهب الحنبلي على رأس المذاهب التي عرفت بالتساهل في هذا المضمار. كما أن بنية العالم الإسلامي الاجتماعية في ذلك الحين، كما ذكرنا سابقا، كانت مماثلة إلى حد كبير لمثيلاتها في أوروبا، لكن أيضا لمثيلاتها في الصين واليابان والهند قبل حدوث الصدمة الاستعمارية الأوروبية.

بكلمات قليلة أخرى، لم تلعب العقيدة، ولا حتى تواجدُ طبقةٍ برجوازية بمواجهة إقطاع من نوع معين، دور المحرك الكافي والوافي في نشوء الرأسمالية، و ما تولد عنها من تقدم وازدهار في المجتمعات الغربية. كما جرى الزحف في هذه المجتمعات المختلفة نحو المنعطف الرأسمالي، بشكل متزامن وعلى محاور متوازية وإن اختلفت مقارباتها الذاتية لبلوغ هذا المفترق في التجربة الإنسانية.

أما ما حدث بعد ذلك في الأزمنة الحديثة من تطور اقتصادي في العالم الإسلامي مغاير لما تم في أوروبا، فمرد ذلك أيضا إلى أمور قبل كل شيء دنيوية، واعتبارات ونظرة إلى الأمور أرضية، سنتكلم عن بعضها فيما يلي:

في 9 تشرين أول 1516، دخل السلطان سليم الأول العثماني دمشق وسار في شوارعها المفروشة بالحرير وسط احتفالات مهيبة. إذ لم ينظر العرب يومها لضم أقطارهم إلى السلطنة العثمانية كاحتلال بمعناه الكلاسيكي، بل اعتبروه بمثابة تبديل سلطوي مرغوبٍ فيه. وبقي هذا حالهم مع الدولة العثمانية حتى نهاية القرن الثامن عشر عندما بدأ التقهقر العثماني، وظهور النزعة الطورانية التركية المتعالية.

ازدهرت البلاد الشامية خلالها من جديد، وأعيد بناءُ موانئ ِ الساحل السوري بعد أن اضطر المماليك إلى تخريبها حتى لا يعود الصليبيون لمهاجمتها وجعلها نقاطِ ارتكاز للتغلغل داخل البلد مرة أخرى. حدث ذلك تحت حماية الأسطول العثماني الذي سيطر يومها على الأبيض المتوسط، واستمر هذا الوضع حتى هزيمته عام 1770 في معركة تشيسمة في بحر إيجة أمام الأسطول الروسي. ويؤكد الباحث الفرنسي أندريه ريمون ضد الآراء المتداولة، فكرة الازدهار في الأقاليم العربية التابعة للعثمانيين خلال هذه الفترة. ويقدم لنا الدليل بالأرقام على هذا الازدهار، خاصة في سوريا ومصر.

وفي نهاية القرن السادس عشر، لا أحد كان يستطيع التكهن بعد بالمآل الأخير للتنافس القائم يومها بين المسلمين بقيادة العثمانيين، وأوروبا المسيحية بقيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة. التفوق الأوروبي الذي بدأ بالظهور في ذلك الحين لم يكن سوى شذرات من الصعب استقصاءُ نتائجَها حتى ونحن في منتصف القرن السابع عشر. فالدولة العثمانية قبل ذلك، زمن السلطان سليمان القانوني كانت يومها الأكثرُ غنى في العالم المتوسطي. كانت ميزانيتها تبلغ ضعفي ميزانية الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت يومها تضم النمسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، والأراضي المنخفضة. خلال هذه المرحلة بالذات، تكمن في اعتقادي نقطة التحول التي أدت لاحقا إلى الثورة الرأسمالية في الغرب، كما دعاها ماركس نفسُه.

حدث هذا التحول الكبير عندما تبنت بعض دول أوروبا الشمالية وعلى رأسها إنكلترا والأراضي الواطئة مفهوم الميركانتيليين الاقتصادي، القائم على اعتبار التجارة الخارجية كمصدر أساسي للثروة الوطنية. بينما اعتقد الفيزيوقراطيون وعلى الأخص في فرنسا، أن الاقتصاد الزراعي هو الأساس في توليد هذه الثروة. من أجل هذا التوسع التجاري، ركز الميركانتيليون على إنتاج السلع المصنعة محليا من أجل تصديرها أولا، قبل اهتمامهم بتوفيرها للسوق الداخلية. ولجأوا خلال هذه المرحلة إلى إجراءات حمائية شديدة بهدف حماية صناعاتهم الناشئة أمام المنافسة الخارجية. هكذا بدأت عملية تراكم ِ رأس المال الصناعي في الغرب الذي أدى إلى تفجر الثورة الرأسمالية فيما بعد. وكان يلزم لهذا التوسع في التجارة إلى ما وراء البحار، الحامل المادي لهذه التجارة، أي الأسطول، تجاري كان أو حربي لحمايته، ونقاط ُارتكاز فيما وراء البحار. بدأ التوسع الاستعماري الغربي على هذه الصورة. وكان لا بد من الصدام مع الأسطول الوحيد الذي كان يقف في وجههم يومها، أي الأسطول العثماني. بدأوا بالبحرين الأسود والأبيض، وانتهت هذه المرحلة بهزيمة الأسطول العثماني في معركة ليبانتو البحرية عام 1572، بعد أن كان قد سيطر هناك قرابة قرن ونيف من الزمن. ثم انتقلوا إلى البحار الدافئة، أي إلى البحر الأحمر، وسواحل إفريقيا الشرقية، وبحر العرب، ومضيق هرمز، والمحيط الهندي حيث كان البحارة العرب والإمارات الإسلامية المنتشرة على الساحل الهندي وصولا إلى مضيق مالقا، يسيطرون على التجارة في هذه المنطقة الشاسعة. حاول العثمانيون التصدي للبرتغاليين الذين كانوا قد احتلوا موانئ شرق إفريقيا فصمدوا في مقديشو، وهاجموا المراكز البرتغالية على الساحل الهندي، لكن البرتغاليون هزموهم عام 1589. بعدها، تأكدت السيطرة البرتغالية على أعالي البحار الشرقية، وأمسكوا بمفاتيح ِ تجارة الشرق. ثم قدم الهولنديون تلاهم الإنكليز في نهاية القرن السادس عشر.

بالمقابل، نرى الدولة العثمانية تسير خلال الفترة المشار إليها في اتجاه معاكس، خلافا للدول الأوروبية التي تبنت السياسة المركانتيلية في اقتصاداتها، والسياسة الحمائية لمنتجاتها المحلية. ففتحت أسواقها على مصراعيها أمام البضائع المستوردة، وقدمت للتجار الأوروبيين مختلف التسهيلات والامتيازات، أو الإعفاءات الجمركية التي كانت تستنزف الاقتصاد، وتضعف المركز التنافسي للصناعات المحلية. حدث ذلك أيام السلطان سليمان القانوني، أي من موقع القوة والاقتدار الأكيدين، وخلال عصر الاستعلاء الإسلامي كما دعاه برنارد لويس. هذه الامتيازات الممنوحة ستتطور مع الوقت لتتحول إلى قيود تعطي الشرعية للتدخل الخارجي في جسم الدولة العثمانية.

عملت الإدارة العثمانية خلال الفترة من العام 1700، بعد معاهدة صلح كارلوفيتز مع الإمبراطورية النمساوية، وإلى العام 1914 ميلادي عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، على تقوية السلطة المركزية للدولة في مواجهة الضغوطات الأوروبية السياسية والعسكرية المتزايدة، تماما كما حصل سابقا في بلاد الشام أيام الحروب الصليبية. صاحب هذا التوجه على الصعيد الاقتصادي للدولة ظهورٌ تدريجي لما يمكن دعوته بِ" رأسمالية الأطراف"، مقابل ما اصطلح على تسميته برأسمالية المركز الأوروبي. جاء المحرك هنا أيضا، من حاجة الدولة العثمانية لاستنهاض عائدات مالية إضافية. فلجأت بدءا من القرن السابع عشر إلى تحويل الإقطاعات الزراعية المدعوة بأراضي التيمار، والمكافئة من حيثِ المبدأ إلى شبيهاتها زمن المماليك، إلى إقطاعيات وراثية. كما منحت الدولة ملتزمي الأراضي الأميرية حق التصرف بها، من بيع وتوريث، للهدف نفسه. بمعنى آخر، جاءت حركة الخصخصة هذه، ونمو الملكية الخاصة في ولايات الدولة العثمانية، كمؤشر أوّلي نحو الاتجاه إلى اقتصاد السوق الرأسمالية. بدأ هذا التحول قبل مرحلة سيطرة الاستعمار الأوروبي المباشرة على بلادنا، وادعائه بأنه هو من أحضر معه تباشير النهضة والتحديث.

مع ذلك، شاهد منتصف القرن التاسع عشر نقطة تحول أكيدة على صعيد السلطة والمجتمع المدني في الإمبراطورية العثمانية. ولتهيئة الجو لمثل هذا التحول، صدر فرمان سلطاني في العام 1851-1852، ينظم فيما ينظم أسعار الفائدة المعمول بها في السلطنة دون مراعاة للأحكام الشرعية في هذا الشأن.

فقد دفع بحث الدولة عن مصادر مالية إضافية، وتراكمُ ديونها الخارجية لمصلحة الدائنين الأوروبيين، إلى اتباع أنظمة ضريبية جديدة. كما ضغط هؤلاء الرأسماليون الأوروبيون، في إطار سياسة تسربهم إلى جسم الرجل المريض، كما كانوا يدعون الدولة العثمانية، باتجاه الاستمرار في خصخصة الزراعة، وزيادة سقف الحيازة الزراعية، لمصلحة قلة من كبار الملاك على حساب الفلاحين مالكي الأرض الحقيقيين. حجتهم في ذلك ظاهريا توسيعُ الصحن الضريبي، لكي يضمنوا قبل كل شيء حصولهَم على ديونهم من عائدات الخزينة الإضافية، لكن أيضا لدعم نشوء طبقة من كبار الملاك يستطيعون هم التأثيرَ عليهم، عن طريق إلحاقهم مباشرة بالسوق الرأسمالية العالمية التي يسيطرون عليها خارج رقابة الدولة، بواسطة دفعهم لتعميم زراعة المنتجات اللازمة للسوق الأوروبية أولا، كالقطن والحرير.

أما في الولايات العثمانية السورية، فكان استملاك الفائض الزراعي من قبل الدولة فيها أكثر تعقيدا وتشعبا. فقد تولت الولايات السورية بنفسها اتخاذ َ قرارات أساسية، مثل ترشيدِ التعرفة الجمركية على حركة البضائع، وإرساء قواعدَ ناظمة للتجارة. حدث ذلك أيضا، قبل قدوم المستعمر إلينا. فقد كان على الولايات السورية دفع مبالغ متزايدة لخزينة الدولة المركزية، لمجابهة تكاليفِ حروب القرم والبلقان، وتدفق اللاجئين بالملايين من الذين أجلوا عن ديارهم في البلقان والقفقاس إلى قلب الإمبراطورية في الأناضول، وعشرات الآلاف غيرهم من الذين قدموا إلى الولايات السورية، كالشركس، والأرناؤوط، والبشناق. كما شكلت الأرباح المدورة للشركات الأجنبية العاملة في الولايات السورية، والاحتياجات المالية المتزايدة لكبار الملاك والتجار في المدن ضغوطا إضافية، مما لم يترك في نهاية الأمر سوى قسم ضئيل من الفائض الزراعي، لكي يتراكم على شكل استثمارات مجدية اقتصاديا لهذه الولايات، ولباقي المواطنين فيها الذين كانوا يعانون ضنك العيش والحاجة.

يوضح ما تقدم، أن عملية التحديث الرأسمالي في الدولة العثمانية تمت في مرحلة أولى بمجهودها الخاص، عندما حاولت تنشيط القطاعات الرأسمالية التقليدية في اقتصادها. وما أن حل القرن التاسع عشر، وأصبح باديا كم هو مهم اللحاقُ بالثورة الصناعية، والاستمرار في عملية الإصلاحات الحيوية، كان الوقت قد فات. فقد منع عندها التفوق العسكري والاقتصادي للإمبرياليين الأوروبيين، الدولة العثمانية من الاستمرار في هذا المجال على نهج ما قام به محمد علي في مصر، ومنعوا إبراهيم باشا من عملية تحديث الدولة العثمانية، عندما زحف بجيوشه عبر سوريا باتجاه اسطنبول عاصمة الإمبراطورية، ودمروا قبل ذلك الأسطولين المصري والتركي في معركة نفارين عام 1827 أمام السواحل اليونانية، بل وقاموا لاحقا وكما هو معروف بتحطيم التجربة المصرية نفسها.

لم تكن إذن، عقيدة الدولة الدينية في العهد العثماني، هي التي عرقلت تطورَها. بل حدث ذلك بفعل سياسات، وأحداث دنيوية مستجدة، ولطبيعة نظام اقتصادي خاص لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ألا وهو النظام الرأسمالي العالمي الذي لا يهدأ ولا يستكين إلا بتجاوز البحار والحدود، واختراق الأجواء والسدود.

مع ذلك، تجب الإشارة إلى أن الإسلام السياسي كما طبق في القرن العاشر ميلادي، لم يكن هو نفس الإسلام الذي عرَفته الفتوحات، كما أنه ليس هو ما نشاهده الآن في القرن الحادي والعشرين، وأنه عندما نود أن نفهم ما حدث في ظله من تطور، علينا أن لا نغفل كل ما واكبه من تبدل اجتماعي، ومن تحولات على صعيد الجغرافيا السياسية، خلال قرون وقرون.

لكنه مع ذلك، يبقى التساؤل حول الحقبة العثمانية قائما فيما إذا كانت الدولة العثمانية مؤهلة أصلا بعد القرن الثامن عشر للانطلاق إلى المجهول الرأسمالي ومنه إلى الازدهار والتقدم. رأينا مما سبق من عرض، أن الدولة العثمانية كانت فيزيوقراطية في توجهاتها الاقتصادية، أي أنها كانت ترى أن المصدر الرئيسي للثروة يكمن في قطاع الزراعة. لكن فرنسا الاستعمارية هي أيضا كانت فيزيوقراطية في توجهاتها مدة طويلة قبل أن ينتشر التصنيع فيها متأخرا عن مثيله في إنكلترا. كذلك كان الحال في ألمانيا، جاء التصنيع فيها متأخرا قبل أن تصبح أقوى دولة صناعية في أوروبا دون أن تمر بالمرحلة الاستعمارية. إذن سبل التقدم نحو الرأسمالية كانت مختلفة. وتجربة محمد علي سبقت النهضة اليابانية، الميجي، بنصف قرن. ماذا حدث إذن؟

أنا أميل إلى الاعتقاد أن اليابان نجحت في قفزتها لأنها بقيت محجوبة ما وراء البحار عن الصدمة الاستعمارية المباشرة المدة َ الكافية لكي تقلع بمجهودها الخاص وتهزم بأسطولها الناشئ أسطول روسيا القيصرية عام 1905 في بور أرثير، وتتطلع بعدها للتوسع باتجاه الصين ومنشوريا.

حدث كل ذلك خلال مدة قياسية وقبل أن تلتفت إليها بريطانيا الاستعمارية التي كانت يومها منهمكة في استعباد الشعبين الهندي والصيني المجاور ِ لليابان. أما الدولة العثمانية وولاياتها العربيات في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، فقد تلقت الصدمة الاستعمارية جبهيا وعلى مدار قرنين من الزمن، لم تنبس بعدها ببنت شفة.

جاء بعد ذلك، نشوء الدولة السورية العلمانية الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية وعلى جزء من بلاد الشام وضع، كما هو معلوم، تحت الانتداب الفرنسي. فأين أصبحت النظرية في ذلك من التطبيق؟

حضرت فرنسا إلى هذه البلاد في إطار صك الانتداب الذي كلفتها بتنفيذه "عصبة الأمم"، بهدف قيادة المجتمع السوري نحو الاستقلال وإنشاء دولة حديثة. جاءت فرنسا نظريا إذن لتأهيل البلد ديمقراطيا، ولبرلته اقتصاديا. إلا أنها عند التطبيق، قصرت في الأداء والتنفيذ، واجتهدت في ذلك وفق أهوائها ومصالحها. إذ كان همها الأول جني الأرباح، وتجيير تكاليفَ احتلالها، وتحميله للاقتصاد المحلي الضعيف أصلا. وبدلا من أن تساعد دولة الانتداب في تخفيف الأعباء المالية التي كانت ترزح تحتها سوريا ولبنان، نراها تصر على أن يسدد البلدان حصتهما من الدين العثماني العام حتى آخر متليك. بينما رفضت تركيا الكمالية نفسها، وريثة الدولة العثمانية الشرعية، تسديد ما عليها منه منذ العام 1929، لحاجتها إلى تلك الأموال في الإعمار والتنمية. نتج عن ذلك، أن الاستنزاف المستمر لموارد البلدين المالية، لم يحجِّم فقط الفائدة المرجوة من الحضور الفرنسي في المشرق، والأملَ في أن تساعدنا الدولة المنتدبة في الولوج إلى السوق العالمية، ومن خلالها إلى الحداثة والتقدم، بل كاد أن يعصف بمستقبل البلدين لولا لطفِ الله، وقدوم الحلفاء زاحفين من فلسطين إلى دمشق وبيروت في العام 1941. هنا يمكن القول، أنه طوال فترة الانتداب الفرنسي، وإلى حين قدوم الحلفاء، لم تأخذ السلطة المنتدبة الإجراءات الجذرية والبنيوية اللازمة لإعادة قولبة القطاعات الاقتصادية من زراعية، وصناعية، وتجارية. كما أن التركيبة الاجتماعية في سوريا ولبنان، لم تتغير زمن الفرنسيين كثيرا عما كانت عليه في أواخرِ عهد العثمانيين، سوى أن الإجراءاتِ التي اتخذتها سلطة الانتداب في مجال منح القروض الزراعية مثلا، جاء في مصلحة كبار ملاك الأراضي المقيمين أصلا في المدن، وفي مصلحة أحلافهم من أصحاب الصناعات الناشئة، وعلى حساب سكان الريف. هؤلاء، الذين تُركوا تحت رحمة المرابين الذين كانوا يتقاضون من المرابعين فوائد بلغت في بعض الأحيان 150%، على الديون المقدمة لهم من أموال القروض التي حصل عليها المرابون أصلا من البنوك الزراعية الحكومية بفوائد ميسرة، لم يمنعهم من ذلك لا دين ولا دنيا.

جاء الاستقلال، وتمت أولا ً القطيعة الاقتصادية بين سوريا ولبنان، وانفصمت بذلك أول وحدة اقتصادية بين العرب، قبل أن يحدثَ الانفصال السياسي بين سوريا ومصر، وحصل بعدها ما حصل.

كثير من الحاضرين هنا، على ما أعتقد، واكب السِّجالات والتنظيرات الإيديولوجية التي تمت في الوطن العربي خلال العقود الأربعة الأخيرة التي شهدت ليس فقط انهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا، بل ما تم من تطورات أيضا على الصعيد العربي، من فوضى اللبرلة الاقتصادية في مصر، وانهيار الدولة البعثية في العراق، والانتقال في سوريا من اشتراكية الدولة وسوقها، إلى آخر الاجتهادات الدردرية حول اقتصاد السوق الاجتماعية.

هنا أيضا، يمكن الإشارة إلى أن الاشتراكية العلمية كما كان ماركس يفهمها، ليست هي نفسها التي واكبت استيلاء البلاشفة على السلطة أيام لينين، وبالتأكيد ليست هي نفسُها زمنَ معسكرات الاعتقال الستالينية، ولا هي نفسُها عندما انهار الاتحاد السوفييتي تحت سمع وبصر ملايين أعضاء الحزب الشيوعي الذين لم يحركوا ساكنا للدفاع عن العقيدة. كذلك حال البعث، فهو ليس كما عهدناه في الخمسينات، ومنطلقاته ليست الآن كما كانت في مطلع السبعينات. وهذا شيء طبيعي، فقد تغيرت متطلبات المجتمع السوري خلال ذلك بتسارع متزايد. أهم من ذلك كلهُ فيما يخصنا، هو ما انتهينا إليه الآن: فقد استدعت كارثة فلسطين، ومن بعدها احتلال مرتفعات الجولان، ردودَ فعل مشابهة لتلك التي كانت سائدة أيام الاحتلال الصليبي للديار الشامية، عندما وقفنا لوحدنا نصد غارات المغول والصليبيين على جبهتين وأكثر. عمل ما تقدم ذكره، وكما هو معلوم، على عسكرة المجتمع في سوريا، مع كل ما ترتب عليه من تبعات على الصعيد العام والخاص، وازدادت أعباء الدولة، ونما نتيجة ذلك جهازٌ حكومي أخطبوطي غير فعال، لا علاقة له بنظرية أو عقيدة، ونشأت في الاقتصاد طبقة طفيلية أكلت الأخضر واليابس. لا أريد أن أطيل عليكم في هذا المجال بل أكتفي الآن بالقول، من أنه أصبح واضحا أن أدواتِ التحكم في الاقتصاد، من بنية سعرية مشوشة، وأسعار صرف خلبية، والفساد والمحسوبية، وارتفاع معاناة الطبقات الكادحة، وشبه اختفاء للطبقة الوسطى التي هي عماد التقدم في المجتمعات الحديثة، كله إذا استمر ليس في مصلحة الوطن من قريب أو بعيد. من هنا العودة إلى التمحيص والبحث، عن أفضل الوسائل والسبل، للعلاج والمداواة، تحت ظروف محيطة أقل ما يمكن القول بشأنها أنها كارثية. فالنظام الرأسمالي العالمي الراهن أو ما يدعى بالعولمة، يجتاز حاليا وكما هو معلوم، أخطرَ مرحلة في تاريخه منذ ما عرف بالكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى منذ نشأته. أزمة تشاهد أكبر إعدام للأصول المالية بلغت مؤخرا 50 تريليون دولار، هذا إذا لم نقل عنها أنها أكبرُ سرقة في تاريخ البشرية وباتت تهدد بانهيار الاقتصاد العالمي ككل، وخاصة مصيرِ الشعوب المستضعفة. وكثرت التأويلات والوصفات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فمنهم من يريد العودة إلى النقد الذهبي، ومنهم من يود العودة إلى الحمائية أيام المركانتيلية القروسطية كأمريكا نفسها، ومنهم من يفكر بالاقتصاد الإسلامي، إلخ...وحقيقة الأمر أن لا أحدَ يعلم بعد إلى ما ستؤول إليه الأمور.

كلمة أخيرة. لا يتكون مجتمع ما عموما، حول حزمة من التأويلات والرموز، والأهواء والظنون. بل يتشكل حول واقع محسوس، ومهام وواجبات، من غير الممكن له بدونها، الاستمرار والبقاء. تتصدرها علاقات الإنتاج، مادية ً كانت أم حسية، لأنها لسبب بسيط هي التي تقولب وتحدد الوظائف الأساسية في المجتمع. بينما تكون الدوافع الفكرية، والإيديولوجيات، والأديان، والمذاهب الفلسفية، الخ، من أدوات الفكر والتأطير الثقافي، وسيلة َ المجتمع للتعبير، لتفسير إنتاج وإعادة إنتاج المنظومة وبنيتها. أدوات الفكر هذه، "تعقل" المجتمع كما تعقل أشياءَ غيره كثيرة، لكن لا تنتجه، هي تفلسفه.

من المهم الإشارة هنا أيضا، إلى أنه لا يمكن تغيير واقع مجتمع ما بمحاولة تغيير وعيه وثقافته من خارجه، دون مراعاة لقوانينه الخاصة به، واحترام ِ قواعده الناظمة له، أي أن لا يتمَ ذلك فقط بمشيئة من يأتون من خارجه، ولا ينتمون إلى نفس دائرته الثقافية، كما يعتقد مغول العصر من الأمريكان وغيرِهم من توراتيي أرض الميعاد. كذلك، من التبسيط بمكان، الاعتقاد بأن الدوافع َ العقائدية هي "انعكاس" للمنطق في تصرف الفرد والجماعة على حد سواء. حرب العراق مثلا، وحصار وتجويع الفلسطينيين، وتدمير البنية التحتية في غزة، ومن قبل ذلك في لبنان، أمثلة كلاسيكية على ممارسات سياسية كلية، مغلفة شكلا "بدوافعَ" عقائدية، من قبيل نحن أو هم عند الصهيوني، أو باعتقاد الجندي الأمريكي مثلا، بأنه جاء فعلا لتحرير العراقيين وجلب الديمقراطية والحرية لهم، كما أقنعته بذلك آلة الدعاية في بلاده. أما على صعيد المجتمع الأمريكي ككل، فقد تم الإعداد الجماعي للحرب، والتخطيطَُ لها، وفق جدول زمني محدد، وعن سابق إصرار، ووفق حسابات وخطط مفصلة، عسكرية كانت أم مدنية.

بمعنى آخر، تمحورت الحرب حول عواملَ وحسابات غريبة عن أية دوافعَ أخلاقية، أي أنها لم تأت "انعكاسا" لأي منها. فهدف الدولة الأعظم في ذلك كان واضحا، وهو السيطرة السياسية والاقتصادية الكاملة على العراق والشرق الأوسط، كما أقر بذلك الساسة الأمريكان وحلفائهم الأوروبيين أيضا، لا دخل في ذلك بمذهب أو عقيدة، ولا بسبب صِراع قائم أصلا بين القيم والحضارات.

Last Updated on Thursday, 15 January 2015 16:52
 

Promotion 1963

MLFcham Promotion 1963

Giverny - Mai 2004

MLFcham Giverny - Mai 2004

Athènes - Oct 08

MLFcham - Athènes - Octobre 2008

Promotion 1962

MLFcham Promotion 1962