Actu USA

Actu EU

Sommaire

Espace adhérent

"طبائع العمران" في الدولة السورية PDF Print E-mail
User Rating: / 2
PoorBest 
Written by Dr Saleh Darwich   
Monday, 23 April 2018 14:43

 

CARACTERISTIQUES DE L’ETAT SYRIEN ACTUEL ET LES GERMES DE SON VIEILLISSEMENT D’APRES UNE LECTURE DE ASSABIYA D’IBN KHALDOUN

 

La construction de la société syrienne s’est effectuée depuis toujours du sommet vers la base sous l’égide d’un état dominant. Pourquoi ce titre et pour quelle raison l’auteur se réfère à la pensée d’Ibn Khaldoun surtout en soulignant le lien qui existe entre la religion et la politique depuis l’avènement de l’Islam ?

L’entrée en matière de cet article est le niveau de cruauté qui caractérise la répression actuelle et la passivité d’une partie de la population qui l’accompagne. Quel instrument d’analyse faut-il utiliser pour comprendre l’état de destruction subit par le peuple et par la terre syrienne ?

Une première interrogation pourquoi cette interférence entre l’époque de l’apogée de la culture musulmane, Al-Nahda et l’époque actuelle ?

Comment le concept d’Al-Assabia (force de cohésion) d’Ibn Khaldoun a-t-il été appliqué tout le long de ces périodes ? L’Etat en Syrie était depuis toujours d’une nature volontariste. Ce qui caractérisait son renversement dans le passé et éventuellement au présent c’est le « cycle » qui faisait passer d’une Assabiya à une autre où les guerres effritent l’Etat central en sous-états dominés par des intérêts sectaires et le pillage des fortunes par la force des armes.

Comment effectuer une projection sur la situation actuelle en Syrie ?

Comment comparer la Assabiya depuis les Mamelouks, à celle des gouvernants actuels ? Et pourtant durant les deux dernières décennies le système a effectué des ouvertures vers le monde extérieur et a autorisé le partage des richesses avec une bourgeoisie émergente ? Pourquoi cette ouverture s’est éclipsée par une révolte populaire en 2011 ? Pourquoi le parti Baath n’a pu englober les différentes composantes de la société et s’est laissé dominer par une Assabiya clanique celle des Alaouites ?

L’évanouissement inéluctable de cet état puisque volontariste, doit-il passer par une révolution ?

 

Postulat : L'État meurt lorsqu'il est frappé d'incapacité et la maladie qui l’emporte est alors une «révolution». La différence entre la mort humaine et la mort d'un état est que cette dernière, d’après Ibn Khaldoun, engendre au moment de sa mort à travers le «cycle de la assabiya» d'un nouvel état.

 

 

 

"طبائع العمران" في الدولة السورية

إعداد

الدكتور صالح درويش

من "سوء حظ" المجتمع الأهلي في الماضي، ومن بعده المجتمع المدني في سوريا، أنهما كانا يجدان نفسيهما على الدوام، بمواجهة سلطة حاكمة متسلطة، تارة أعجمية وغريبة عن البلد (مماليك، وعثمانيين، ومستعمرين إنكليز وفرنسيين...)، وتارة فئوية محلية. في مثل هكذا إطار، يصبح، عندما نتكلم عن كيف تم تشكل المجتمع السوري المعاصر، وأسباب ما يعاني منه من محن، كمن يتكلم بالأحرى عن تاريخ نشوء، وتطور الدولة الإطار في سوريا، لأنها لعبت على الدوام دورا حاسما في صوغ الشرائح المجتمعية المختلفة، انطلاقا من "أعلى الهرم المجتمعي"، وليس بالعكس. أي، بدل ان ينطلق هذا الانبعاث من "بناء تحتي"، يفرز من لدنه نحو الأعلى، نخبا يُتوافق عليها، لترتهن بمشيئته قدر الإمكان، وليس بمشيئة فئة قليلة متسلطة، هبطت عليه من "فوق".

 

في هذا الموضع، ربما من سيتساءل قبل أن يتابع القراءة، عن ما علاقة ما تقدم من مدخل، بالمفهوم الخلدوني: "طبائع العمران" الذي عُنون به النص؟ و ما علاقة الدين بالسياسة أيام ابن خلدون بالكارثة السياسية والإنسانية التي تعاني منها سوريا حاليا؟ نعم، حاول ابن خلدون يومها فهم تردي الأمور في عصره، متدرجا في استطلاع الخلفية التاريخية لما جرى منذ نشأة الدعوى الإسلامية أيام الرسول الأعظم إلى أن وصل في التحليل لواقع عصره. لكن، ما العلاقة بين تاريخ ما قبل ابن خلدون وعهد ما بعد ابن خلدون؟

الجواب هو، أنه ربما نجد في تحليلات ابن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن. ألا نجد بعض ملامح ذلك التناقض المزمن الذي كان قائما على زمانه في حياتنا الجارية الآن؟ ربما تساعدنا عندها بعض أدوات تحليل ابن خلدون في علم الاجتماع العربي، ما يستعصي علينا فهمه لبعض أوجه الصراع القائم حاليا عندنا في سوريا عند الاكتفاء باستعمال أدوات التحليل "العقلاني و المنطقي" الغربية التي اعتدنا استخدامها. خاصة، لفهم ما يتعلق منها ببعض الأمور والردود السيكولوجية، مثل درجة التوحش، التي تبديها الأطراف المتصارعة من محلية وأجنبية، ولمحاولة فهم إصرار بعض الشرائح المجتمعية السورية على استمرار دعمها للنظام القائم الذي يبقى على رأس من يتحملون مسؤولية ما حدث، بحجة أن لا بديل للنظام أقل ضررا منه. يحق لنا على الأقل التساؤل، عن مدى قانونية استمرار ادعائه، من أنه ما يزال الجهة الشرعية الوحيدة التي لها الحق في استخدام كافة الوسائل، وبحقه في استدعاء من يحلو له من المستعمرين القدامى والجدد، وأعوانهم من عرب وعجم، ليشاركوه في جريمة العصر.

الواقع أنه من أهم المؤثرات التي طبعت وما زالت تطبع الأمة العربية هو ذلك المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه، لأنه مزيج من عنصرين قويين جدا، هما السياسة والدين. لا سبيل إلى فهم حاضرنا وماضينا إلا إذا وضحت هذه المسألة. هذا يعني، أن على المؤرخ الأدبي، أو السياسي، أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب في أساس الدراسة التي يريد أن يقوم بها.

هناك، قبل كل شيء، الاقرار مسبقا بصحة المقولة التي تدعونا للاعتراف من أن تاريخ الشعوب في أوروبا، مثلا، يتألف من حقب تاريخية متمايزة إلى حد ما: عصور قديمة، وقرون وسطى، والعصور الحديثة، منفصلة عن بعضها، ما مضى منها قد مضى. إلا عندنا، فتاريخنا متصل ومستمر. بمعنى، أن ما قبل الإسلام، وما يدعى بصدر الإسلام، وعصر النهضة، وعصرنا الحالي، كلها متداخلة ما زلنا نعيشها جنبا إلى جنب. الماضي والحاضر عندنا لا ينفصلان. والنتيجة هي حضور هذه "الجزر الثقافية" كما يقول الجابري، في الوعي العربي الراهن حضورا متزامنا. أي أن الواحد منا عندما ينتقل من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي ومن ثم إلى عصر النهضة، لا يشعر أنه ينتقل من زمن إلى زمن. ينعكس ذلك بالطبع على المثقف العربي وعلى غيره من أبناء سوريا الذين منذ العصر الأموي ما يزالون إلى اليوم، يعيشون في وعيهم صراع الماضي متداخلا مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضرهم. هكذا يتحول حاضرنا، يقول الجابري إلى "معرض" لمعطيات ماضينا، فنعيش ماضينا في حاضرنا جملة واحدة، بدون تغاير، بدون تاريخ. من منا لم يستدعي في ذاكرته "الموروث"، أي معركة صفين، بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان التي وقعت قريبا من الرقة على نهر الفرات، عندما شاهد معارك الرقة في صيف العام الماضي؟ ومن منا لم يفكر بمعركة مرج دابق بين السلطان سليم الأول العثماني وقانصوه الغوري سلطان المماليك في مصر والشام، عندما سمع مؤخرا بزحف الجيش التركي نحو عفرين التي تقع على سيف مرج دابق؟، والأمثلة كثيرة...

لكن ما هو هذا "الموروث الخلدوني" الذي نتوخاه لنسترشد ببعض من ضوء سراجه في الماضي، عسى أن يضيء بعضا من حاضرنا المظلم؟

لنستذكر بعضا من ابن خلدون مع الجابري، من خلال استعراضه لمقدمة ابن خلدون الشهيرة:

لنبدأ مع عنوان البحث. "طبائع العمران"، تعني عند ابن خلدون الخصائص الملازمة للعمران نتيجة (العادة). والعادة تعني كل فعل جسماني أو ذهني يرسخ بالتكرار حتى يصبح بمثابة (الطبيعة) أو المزاج. وجمعها: طبائع. والعمران، عند ابن خلدون، يعني الحياة الاجتماعية وما ينتج عنها أو ما يرافقها من مظاهر اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية. هذه الطبائع كلها، لها علاقة واضحة أحيانا، خفية أحيانا أخرى، "بطبيعة" عامة للعمران البشري هي العصبية.

لا تعني العصبية الخلدونية قانونا عاما يمكن له أن يتحكم في مصير البشرية، بل هو فقط نوع من الرابطة الاجتماعية يبرز مفعولها على غيرها من الروابط، في ظروف خاصة، ويختبئ أو يضعف في ظروف أخرى.

والعصبية من العَصَبَة، بفتح العين والصاد، وتعني الجماعة. لا يربط ابن خلدون العصبية بالقرابة الدموية ربطا مطلقا، فالأساس الفعلي والحقيقي التي تقوم عليه العصبية: هي المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة. والعصبية هي قوة للمجابهة، لا تبرز ولا تشتد إلا عندما يكون هناك خطر يهدد العصبية في مصلحتها المشتركة، وهي المصلحة المربوطة دوما عند ابن خلدون ب"أمور العيش"، أي بالعامل الاقتصادي. لكن بمفهوم عصر ابن خلدون، لا زيادة ولا نقصانا فيه، كما سنرى لاحقا.

يبقى أن المشكلة الأساسية التي شغلت بال ابن خلدون: هي كيف تقوم الدول، وما هي عوامل تطورها وأسباب سقوطها واضمحلالها. تنشأ الدولة حسب ابن خلدون باعتبارها وازعا. إنها ضرورة اجتماعية، تفرضها استحالة بقاء البشر في "فوضى"، دون حاكم يزع بعضهم عن بعض، ويحجز فيما بينهم. يقول ابن خلدون، إن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، أي الاستيلاء على السلطة. ويتابع قائلا، إنه "ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه". هي "ضرورة وجودية". بمعنى أن العصبية تؤدي إلى الملك ضرورة. لأن الله هو الذي أجرى "العادة" في الكون على ذلك، بحسب رأيه. وهذه العادة قد استقرت وأصبحت "طبعا" ملازما للعمران لا يفارقه البتة. ومن ثم صار حدوثه فيه بمثابة الأمور الطبيعية. إنها عبارة عن المشيئة الربانية. واضح من هذا القول، أن "طبائع العمران" الخلدونية لا تعني القوانين بالمعنى الحديث. لكن، كانت كافية له لكي يحلل بواسطتها كيف نشأت الدولة العربية الاسلامية منذ الدعوى وحتى أيامه، ولماذا اتبع يومها نظام الخلافة في الحكم. ما يهمنا في ذلك، هو الطبيعة "الإرادية" volontariste لهذه الدولة، بمفهومها الفلسفي، التي استمرت كذلك حتى مجيء المستعمر إلى البلاد. لم يحكم رأس الدولة بمشيئة من الله فقط، بل بقي المجتمع نفسه فيها في تركيبته المجتمعية "إراديا"، دون طبقات متميزة كما في المجتمعات الأوروبية. كان هناك فيها ما عرف بفئة الخاصّة وبفئة العامّة، دون تمثيل لهما في الحكم. أي، لم توجد في الدولة الإسلامية ما شابه "مجالس الطبقات" التي كانت حاضرة إبان الحكم المطلق للملكيات الأوروبية. اللهم، إلا في أواخر عهد الدولة العثمانية، أيام مجلس المبعوثان.

يرتبط مفهوم الدولة عند ابن خلدون بنظريته في العصبية ارتباطا عضويا. خاصة، عندما يفسر كيف نشأت الدولة العربية الاسلامية من لدن مجتمع قبلي، أي من داخل تجمعات عصبية كانت ترتبط بعصبية عامة هي العصبية العربية، انطلقت لتنشئ دولة.

والدولة عند ابن خلدون تكون إما دولة شخصية، وهي حكم شخص واحد من أهل العصبية التي تحكم، فنقول دولة معاوية، أو دولة هرقل، وإما هي الدولة الكلية، وهي مدة حكم عصبية ما. فالدولة الأموية مثلا دولة كلية باعتبارها دولة عصبية خاصة من العصبيات العربية، وهي عصبية بني أمية. والدولة العربية سواء كانت أموية أو عباسية هي أيضا دولة كلية باعتبارها دولة عصبية عامة واحدة، هي عصبية العرب جميعا، وذلك مقابل دولة الروم أو الفرس.

والسؤال، لماذا تتحول العصبية في لحظة من اللحظات، من مجرد رابطة قبلية معينة إلى قوة للمطالبة والسعي وراء السلطة، ومن ثم تأسيس الدولة؟

وللجواب على التساؤل المطروح أعلاه، يقول ابن خلدون، إن العصبية لا تلعب دورها التاريخي، إلا إذا قامت حالة يتوفر فيها أحد الشرطين الضروريين الآتيين:

· وجود "عصبية عامة" جامعة لعصبيات متفرقة خاصة ب "العمران البدوي"، لا يحصل الحكم لهم إلا بصبغة دينية...ويقصد ابن خلدون هنا الدين بمفهومه الواسع، حتى ما اتخذ من الدين ستارا وقناعا. كان الدين عند صاحب المقدمة شرطا ضروريا لقيام دولة "العرب ومن في معناهم"، من أكراد، وتركمان، كما يقول...ولاحقا العثمانيين. لكن هذا العامل الإيديولوجي، أي الدعوى الدينية، فكانت عند ابن خلدون "لا تتم من غير عصبية"...إن العصبية، عصبية قريش أولا وعصبية العرب جميعا، كانتا شرطا ضروريا في نجاح الدعوى الاسلامية وقيام دولة العرب. عدا عن أن ضرورة الاجتماع عند ابن خلدون ترجع أساسا إلى حاجة الناس إلى التعاون من أجل "تحصيل الغذاء". والاستيلاء على الحكم الذي هو هدف للعصبية، كان يتطلب تفسير كيف جرى الانتقال من حالة "العمران البدوي" بمعناه الواسع إلى حالة "العمران الحضري" ورقة الحضارة. هدف ابن خلدون من وراء ذلك تفسير ما جرى في التاريخ العربي الاسلامي، ووتيرة تعاقب الدول والممالك فيه الذي أدى لتلك الفوضى العارمة أيام ابن خلدون. ويقول، إن ذلك جاء نتيجة انتقال الجماعة البشرية الواحدة من الحالة الأولى إلى الثانية، انتقالا غير طبيعي، غير ناتج عن تطور تدريجي، وتحسن مطرد في ظروف "الانتاج" في المجتمع ووسائله، بل تم على شكل "طفرة" تمكن خلالها أفراد العصبية من الاستيلاء على السلطة. لن أسترسل هنا أكثر ، في توصيف شرط وجود عصبية عامة لنشوء الدول الذي توقف ابن خلدون عنده طويلا، لتبيان الأسباب التي أدت لحالة الفوضى في الدول الاسلامية التي كانت سائدة على زمانه. ما يهمنا حاليا أكثر، كما سترون، هو الشرط الثاني الذي تكلم عنه ابن خلدون، الذي تعود وتلعب العصبية فيه دورها التاريخي أيضا. يحدث ذلك في ظروف انهيار الدولة.

· وقوع الدولة في طور الهرم:

"هرم الدولة" هي المرحلة التي تفسد فيها العصبية الحاكمة، فيلجأ الحاكم إلى الاستعانة بالموالي، والمصطنعين، والمرتزقة، على حد تعبيره. يرافق ذلك دوما إرهاق العامة (الفئات الوسطى من فلاحين وصناع وتجار...) بمختلف أنواع المغارم والجبايات، فيشقون عصا الطاعة، وتستيقظ عصبياتهم، وتتوحد ضد عصبية الحاكم التي تكون حينئذ فاسدة مشلولة، فيقومون بالثورة عليه. ونجاح عصبية هؤلاء في تأسيس البديل مشروط بعجز الدولة عن المسير، وهو العجز الذي يصيبها في آخر مرحلة من طور هرمها...لكن، قبل هذه المرحلة النهائية، لا يعني دخول الدولة في مرحلة الهرم ضرورة اضمحلالها وزوالها نهائيا. بل إن سرعة نهايتها تتوقف على نوعية الظروف والأحوال القائمة.

يقول ابن خلدون، إذا كانت الدولة ضيقة النطاق في أصلها، أي محدودة المساحة والأبعاد، فإن أمرها سهل على المطالبين، إذ ربما يتمكنون من القضاء عليها دفعة واحدة، هذا إذا كانت قوتهم تفوق قوة الدولة. أما إذا كانت قوتهم مكافئة لقوة الدولة أو أضعف منها، فإنهم يكتفون بالاستقلال بإحدى المناطق وانتظار الفرصة المواتية. وفي الغالب فإن الثورات التي تحدث ضد الدولة في طور هرمها إنما تقوم بها، إحدى العصبيات التي كانت من قبل منضوية في عصبية الدولة، ومن بينها عصبية "البدو المزارعين المغلوبين لأهل الأمصار"، أي الفلاحين. فظروف هرم الدولة يرافقها دوما ارهاق الفلاحين بمختلف أنواع المغارم والجبايات، فتستيقظ عصبياتهم وتتوحد ضد عصبية الحاكم التي تكون حينئذ مشلولة، فيقومون بالثورة عليه. ربما، يفعل ذلك أيضا بعض من أصحاب "عصبية الأمصار". تكون هذه العصبية الحضرية عبارة عن تحزب فئات اجتماعية ضد أخرى في ظروف خاصة، تنشأ في ظروف انهيار الدولة.

يذكر الجابري في كتابه: "العصبية والدولة" الذي نشر في ثمانيات القرن الماضي، أن تحليل ابن خلدون حول هرم الدولة، يتشابه مع نظرية لينين في الثورة والوضع الثوري.

يقول لينين إن الثورة لا تنجح إلا إذا توافر شرطان أساسيان، هما: قيام وضع ثوري ووجود تنظيم جماهيري ثوري كذلك. وهما يتقابلان عند ابن خلدون كما بينا سابقا، بالنسبة إلى ظروف ومعطيات عصره، وجود الشرطين: هرم الدولة ووجود عصبية جامعة بديلة.

لكن، لماذا يجب أن يسقط حكم العصبية الحاكمة بالمرة، ليقوم مقامه حكم عصبية أخرى قريبة أو بعيدة تبدأ هي أيضا، في تأسيس دولتها ربما من الصفر؟

بعبارة أخرى، لماذا هذه "الدورة العصبية"؟ في هذا الموضع يدخل ابن خلدون بعدا ثالثا إلى معادلته لإيضاح المقصود بذلك، فتصبح: العصبية - الدولة - و"الحضارة المفسدة للعمران". يعطي ابن خلدون هذه المعطيات الثلاثة مدلولات خاصة، ذكرنا بعضها بما يتعلق بالعصبية، وبالدولة. أما الحضارة المفسدة للعمران، فتعني عند ابن خلدون نمط من العيش وأسلوب في الاستهلاك، خاص بالطبقة الحاكمة، ومن يدور في فلكها من موظفين وغيرهم، تكون قائمة عندما تهرم الدولة. أي هي، مجموع المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق هرم الدولة، وتلازمه "ملازمة العلة والمعلول":

سياسيا: تنحل تلك الوحدة السياسية التي تجسدها الدولة عندما ينقلب "العقد الضمني" التي قامت عليه هذه الوحدة إلى عكسه. فالولاء في المجتمع العصبي هو ولاء للمصلحة المشتركة التي يرى فيها كل شخص مصلحته الخاصة التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلالها. وعندما يصبح في مستطاع الفرد العمل على تحقيق مصلحته الخاصة بمفرده تصبح المصلحة المشتركة غير ذات موضوع، كما أن الولاء لها، يغدو لا معنى له. ينقلب عندها التناصر إلى تناحر، والكفاح من أجل المصلحة المشتركة إلى صراع بين المصالح الخاصة.

اجتماعيا: تتجلى في هذه المرحلة آثار صراع المصالح الخاصة في كثرة الخارجين على الدولة، وفي الحروب الأهلية التي لا تهدأ حتى لتقوم وتتوسع. تنشأ هكذا "دول خاصة"، وإمارات مستقلة، بعد أن انحل "العقد الضمني" الذي بموجبه قامت دولتها أول الأمر. في هذه المرحلة، تصبح حرب العصبيات الثائرة على العصبية الحاكمة مستمرة، ومتشعبة لا تنطفئ نارها، لأن النصر فيها ما يكون "بالمطاولة لا بالمناجزة"، كما يقول ابن خلدون، أي بالمراوغة لا بالمصادمة. يؤدي هذا التمزق السياسي والاجتماعي في هذه المرحلة، إلى "كثرة الموتان" وإلى " كثرة الفتن لاختلال الدول فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء".

وأما من الناحية الاقتصادية: كل ذلك، يكلف خزينة صاحب العصبية الحاكمة أعباء مالية جمة تلجأ الدولة على أثرها إلى كل الأساليب الملتوية للحصول على المال اللازم لها، و"على العدوان على الناس في أموالهم"، كما يقول ابن خلدون. يصبح عندها المقصود بفساد العمران في مرحلة هرم الدولة، هو فساد عمران العصبية الحاكمة المؤسسة للدولة، أي الكيان الاجتماعي الخاص بالعصبية الحاكمة. هذا من حيث مادته البشرية، أما من حيث فساد صورة العمران الذي أقامته تلك العصبية، فإن سقوط دولتها يعني في الغالب تخريب آثارها العمرانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية نتيجة أزمة اقتصادية خانقة، لتنشأ بدلا عنها دولة جديدة تهرم بدورها فتسقط عندما تجد نفسها هي الأخرى غارقة في أزمة مماثلة لا مناص منها ولا مخرج من ضائقتها.

وراء هذه "الدورة العصبية" المتكررة، يكمن التناقض الأساسي لدى ابن خلدون، وهو المسؤول عن تلك العملية الجدلية المغلقة، وتلكم الأزمة الاقتصادية الدورية: انتقال جماعة بشرية من حالة اجتماعية إلى أخرى عبر "طفرة"، زمنيا قصيرة، للاستيلاء على الحكم، وليس عبر علاقات انتاج ممتدة وصراع بين التناقضات، بالمفهوم الماركسي. هي علاقات من نوع خاص، علاقات عصبية تشد الأفراد بعضهم إلى بعض ما دامت المواجهة قائمة، لتنحل نتيجة ظهور المصالح الخاصة والشخصية المتناقضة. بمعنى، أن السلطة لدى ابن خلدون ليست نتيجة السيطرة الاقتصادية، بل إن السيطرة الاقتصادية أو نشوء الثروة على العموم، هي نتيجة للسلطة، أي لقوة العصبية الحاكمة، وبمعنى آخر، للدولة. كما أن "الطفرة" في الاستيلاء على السلطة، يقول ابن خلدون، هو ما "خلق التوحش الذي استحكم فيهم" نظرا "لتفردهم عن المجتمع...وتوحشهم في الضواحي...مما جعلهم أقدر على التغلب...ولأنهم ينزلون من الأهلين منزلة المفترس..". وأما الأساس الذين يقيمون عليه "حضارتهم، فهو الجاه الذي اكتسبوه بقوة السلاح، والذي يفيدهم المال ويكسبهم الثروات"، وهي المرحلة التي يسميها ابن خلدون أيضا بمرحلة "المُلك بالجند والجند بالمال". يستمر حالهم هكذا إلى أن "تزيد نفقاتهم على أعطياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم...فينتزعون ما في أيدي الكثير منهم...فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدولة بضعفهم... وتسقط الدولة ويتجاسر عليها من يجاورها، أو من تحت يدها...".

يقول الجابري إن عبقرية ابن خلدون ليست راجعة لإبراز هذا العامل أو ذاك، بل لأنه ربط بين كل ذلك في أنظومة واحدة. زاوج ومزج بين العصبية والدين، ونظر إلى فاعليتهما من خلال تأثيرهما المتبادل. كما زاوج بين العامل الاقتصادي (شؤون المعاش)، والعامل الطبيعي والجغرافي (تأثير المناخ وموقع البلد موضع الدراسة)، ونظر إلى تأثيرهما ككل. دون أن يقول بحتمية جغرافية منفصلة، ولا بجبرية دينية قاهرة، ولا بحتمية اجتماعية أو اقتصادية معينة، بل مزج بين كل هذه الحتميات في "حتمية" واحدة، هي "الحتمية العمرانية" إن صح القول، كما يقول الجابري. هذه العوامل الفاعلة اعتبرها ابن خلدون عوامل ثابتة تشكل ما أسماه ب "طبائع العمران"، كانت تبدو حركة التاريخ العربي الاسلامي منذ بدء الدعوى وحتى أيام ابن خلدون من خلالها في شكل حركة دورية تشخصها عملية قيام الدول وسقوطها، وتتحكم فيها، وإلى حد بعيد، تلك العوامل مجتمعة.

"المُلك بالجند والجند بالمال"

سبق لمعد هذا البحث منذ أن قدم رسالة الدكتوراه قبل أربعة عقود، حول التاريخ الاقتصادي لبلاد الشام، وانتهاء بكتابه، حول سوريا زمن الانتداب الفرنسي، أن تطرق لموضوع نشوء الدولة عندنا، وتطورها حتى أيامنا، وبماذا اختلفت تركيبتنا الاجتماعية، والمنحى الذي اتخذته عن سواها خاصة في الغرب، وإلى أي حد لعبت خصوصيات تاريخنا في تكوين وضع ما نحن عليه الآن. تم ذلك بمقاربة تأثرت "بالمنطق" الغربي الذي كان يحكم الجامعات الغربية التي درسنا فيها، متأثرين خاصة بالنهج الماركسي في التحليل المجتمعي. لا يعني ذلك بالطبع، أننا لم نتوصل إلى نتائج معقولة باستخدامنا لآلية البحث العلمي التي تعلمناها في الغرب. لكن ما زلت أذكر بهذا الصدد قول أحد اساتذتنا في الجامعة الذي كان يدرسنا مادة الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي، عندما التفت نحونا نحن الأجانب خلال المحاضرة قائلا: ما تسمعونه منا لن يفدكم كثيرا في تحليل ومعالجة أوضاعكم في أوطانكم، عليكم أن تدلوا بدلوكم الخاص بكم...

لابد أن من قرأ ما أوردته أعلاه عن بعض من فكر ابن خلدون، قد دهش لتوصيفه المذهل وتحليله للوضع المتردي الذي كان قائما في أيامه قبل سبعة قرون، والمشابه إلى حد كبير للحالة السائدة حاليا في سوريا بعد سبعة أعوام من الثورة، لكن أيضا في غيرها من البلاد العربية بعد فورة ما عرف ب"الربيع العربي".

في هذا الموقع بالذات، يمكن إعادة القول، من أن ما حدث منذ أن دخلت الحداثة إلى حياتنا، هو أن المعطيات الثلاثة التي تكلم عنها ابن خلدون كانت قد تعرضت إلى نوع من القمع والإبعاد، فأصبحت تشكل "المكبوت" السياسي والاجتماعي لدينا. وقد أدت النكسات المتتابعة إلى عودة "المكبوت" في صورته العشائرية، والطائفية، والتطرف الديني، والاقتصاد الريعي، "لتجعل حاضرنا مشابها لماضينا ولتجعل عصرنا الإيديولوجي النهضوي والقومي وكأنه حلقة استثنائية في سلسلة تاريخنا".

أكتب هذه الأسطر الأخيرة، وكنت قد استمعت قبلها إلى الأخبار الواردة من غوطة دمشق الشرقية، والقصف الوحشي بالطائرات، وغيرها، الذي يتعرض له أهلنا هناك. عندما قصف الطيران الألماني بلدة غيرنيكا أيام الحرب الأهلية الاسبانية، قامت الدنيا ولم تقعد بعدها. خلد الرسام بيكاسو تلك الموقعة الشهيرة بلوحة رسمها أصبحت أشهر من نار على علم. اليوم، يقصف طيران العصبية الحاكمة في دمشق وحليفها الروسي، قرى وبلدات ومدن الغوطة دون هوادة حتى حد السحق والإبادة، دون سميع ولا مجيب.

سأبدأ، محاولا دون إطالة، سرد القصة من أولها، إلى أن يأتي غيري ويكملها:

لم يذكر ابن خلدون خلال استعراضه لسبعة قرون من التاريخ العربي الاسلامي منذ نشوء الدعوى، أن "طبقة العامة"، أي الفئات الوسطى من فلاحين وصناع وتجار، كان لها أي دور أساسي في أحداث التاريخ العربي الاسلامي إلا لماما. لقد كان الفلاحون في الغالب "مستضعفين وأهل عافية"، كما يقول عنهم ابن خلدون. معظم الأراضي الزراعية التي فتحها العرب في بلاد الشام كانت تترك في أيدي أصحابها، ليفلحوها، مقابل دفع خراج عليها. كذلك الصنائع مثلها مثل الفلاحة والتجارة لم تترك الدولة الاسلامية المسيطرة المجال لهم لكي يصلوا إلى وضع يمكنهم من تشكيل قوة اقتصادية، أو طبقة اجتماعية، تستطيع القيام بدور فعال في الأحداث السياسية. كانت هذه الفئات الوسطى تتعرض للاستغلال ولكن المستغل لم يكن طبقة اجتماعية، بل كان الدولة.

باختصار شديد، يمكن القول بأن شبه هذا الوضع بقي مستمرا خلال القرون الوسطى وإلى أن قدم المستعمر إلى البلاد بعد انهيار الدولة العثمانية، آخر دولة كلية اسلامية وذات عصبية عامة واحدة، هي عصبية العثمانيين، حسب المفهوم الخلدوني. كان المجتمع السائد خلالها في بلاد الشام، مجتمع كثرة، أي تعدديا، إلى أبعد الحدود. عرف هذا النظام أيضا بنظام الملّة العثماني. مجتمع مؤلف من عصبات، حتى لا نقل عصبيات، متعددة دينية كانت أم اثنية، تحتفظ كل جماعة فيه بذاتيتها العصبية.

خلال فترة الانتداب الفرنسي، بدأت تتوضح معالم "طبقة" بورجوازية مدينية حديثة قيد التكوين، أخذت تنشأ خارج الإطار التقليدي الذي كان سائدا من قبل بين صفوف الشريحة الاجتماعية العليا، أواخر فترة الحكم العثماني في سوريا، والتي كانت يومها تتكون من كبار موظفي الدولة المدنيين و العسكريين، ومن أغنياء زعماء العشائر البدوية، وكبار التجار المرتبطين بالطبقة الحاكمة.

ما حدث بعد الاستقلال ومنذ ستينيات القرن الماضي، هو أن دولة "إدماجية" جديدة أخذت تحل ببطء محل "الطبقة البورجوازية" الناشئة في السيطرة على النظام الاجتماعي، وليتوسع جهازها الإداري ليسيطر على كافة القطاعات الاجتماعية، وأخيرا ليحل أيام حزب البعث الحاكم، أو من كانوا يحكمون باسمه، مكان المجتمع نفسه، مختزلين إياه نزولا إلى "مستوى منظمة سياسية"، يديرونها كيفما اتفق.

بدأ ذلك الاتجاه في الحكم يتعمق بعد هزيمة عام 1967. خاصة، عندما بدأت التركيبة العصبية للطبقة الحاكمة تتضح ملامحها أكثر فأكثر.

وصف كاتب هذه الأسطر، عندما قدم بحثا عام 2006 قبل الثورة، بعنوان: "البورجوازية" السورية في أيامنا، الدولة السورية فيه، من أنها دولة مماليك جديدة في تاريخنا المديد. لكني استدركت يومها قائلا، من أنه لا يجب وصفها بالفاشية. أذ لا قواسم مشتركة بين تركيبتها ونشأتها، وتلك التي تقع في أساس تركيبة دول غرب أوروبا الفاشية التي نشأت قبيل الحرب العالمية الثانية. لأن هذه الأخيرة ولدت من رحم منظومة رأسمالية متقدمة، بعد ان استطاعت استقطاب الدعم المالي للبورجوازيات الأوروبية العتيقة، الليبرالية والعلمانية. تابعت قائلا، إنه لا يكفي الطابع الاستبدادي، والقمعي، والقوموي الشعبوي، لدولتنا في سوريا، لتصنيفها من أنها فاشية وشمولية، بمدلولهما الحداثي. إلا إذا عنينا بالفاشية لدينا بعض اللامح المشتركة التي تتشارك بها مع غيرها من الفاشيات، عند توصيف بعض الأفعال المتوحشة التي تقوم بها. "فاشيتنا"، هي أقل حداثة من قريناتها الفاشيات الأوروبية وهي فعلا مملوكية الطراز، استدعيناها إلى العودة من ترسانة "المكبوت" لدينا في صورته العشائرية، والطائفية، والتطرف الديني، والاقتصاد الريعي. وهذا طبعا مغاير لما حدث عند قريناتها الفاشيات الأوروبية.

كذلك، قلت يومها أنه ليس عمليا استخدام التحليل "الطبقي" المعتاد في تحليل مجتمع لا يزال قيد التشكل كمجتمعنا. مجتمع ما زال مؤلفا من عَصَبات، أي جماعات حتى لا نقل عصبيات، متعددة دينية كانت أم اثنية، ما زالت كل جماعة فيه تحتفظ بذاتيتها العصبية كامنة، لتفور على السطح وتظهر عندما يكون هناك خطر يهدد أفرادها في مصلحتهم المشتركة، كما أظهرت أحداث الثورة السورية مؤخرا.

إن ما حصل في سوريا خلال العقدين التاليين منذ الانقلاب العسكري الشهير باسم "الحركة التصحيحية" عام 1970، يمكن حصره استنادا إلى نظرية ابن خلدون حول أطوار الدولة، أي خلال مراحل تطورها، في إطارها الذي وضعها فيه، وهو إطار انتقال الرئاسة والحكم من عصبية خاصة إلى أخرى مماثلة لها داخل تجمع عصبي أوسع. ولما كانت العصبية إنما تقوم على المصلحة المشتركة، استندت سياسة الحكم في هذا الطور، على نظام "المشاركة والمساهمة" والتسيير الجماعي في إطار العصبية الحاكمة، للحفاظ على الوحدة والالتئام داخل الجماعة. لكن، ذلك لم يتم دون هزات عندما حاول رفعت الأسد الاستيلاء على السلطة من أخيه، وعندما توفي باسل الأسد في حادث سيارة حارما صاحب الدولة من بيدق ثمين أثناء هذا الطور الذي يكون فيه الحاكم معنيا، كما وصف ابن خلدون، "باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، المضاربين معه في الملك بمثل سهمه". كما حاولت الدولة خلال هذا الطور أيضا، اتباع سياسة كسب القلوب "وإنزال الناس منازلهم"، لضمان ولاء مختلف الفئات، وهو ما أوتي أكله عند قمع تمرد حماه عام 1982، واصطفاف طبقة التجار والفعاليات الاقتصادية، وعلماء الدين، خاصة في دمشق، إلى جانب السلطة.

بذلك، يمكن القول بتعبير آخر، إنه بدأت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي تتضح معالم "انزياح" نسبي في مرتكزات كامل البناء الاجتماعي والسياسي في سوريا. هدفَ هذا الانزياح الذي بدأ النظام في إجرائه لصالح أبناء الطائفة العلوية، إلى دوام سيطرتهم. ليس فقط عن طريق الاستمرار، وفي الإفراط بمنحهم الامتيازات، بل أيضا، تم ذلك عن طريق تشجيعهم على "مساكنة" باقي مكونات المجتمع السوري الساعي للتكامل والحداثة، بعد انعزالهم عنه في الماضي. عندما كان يفترض، من أن تكون معايير العشائرية، والتمايز الطائفي، والثقافي، قد بهتت معالمها لدى مكونات المجتمع الأخرى، ووهنت لديها عصبياتها المتعددة، إلى الحد الذي لا تعود وتقوى عنده على مقاومة هيمنة "العصبية الخاصة" الناشئة، والواردة حديثا، إلى الساحة السياسية، وسعيها للتفرد بحكم البلد.

هكذا، أخذت "العصبية العشائرية" التي كانت تميز المجتمع المغلق على نفسه بشريا واقتصاديا في جبال العلويين، تفسح المجال لتحل محلها عصبية أكثر مرونة، وهي التي دعاها ابن خلدون ب"عصبية الأمصار". هذه "العصبية الحضرية" الخاصة ب"العمران الحضري" والتي تكون "بالأمصار، والمدن والقرى..."، على حد تعبيره، أخذت تحل بدلا عن سابقتها المغلقة على نفسها دون أن تفقد طابعها السابق العملياتي، والصدامي، عند الضرورة، ودون المساس بالأساس الفعلي والحقيقي التي تقوم عليه عصبيتها. أي، الاستمرار في الدفاع عن المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة، في إطار أو سياق مديني يسعى هذه المرة مضطرا للانفتاح على العالم الخارجي، محليا، واقليميا، ودوليا.

بكلمات أخرى، أخذت القاعدة السياسية والاقتصادية للنظام خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، تتوسع وتتمدد، في وقت كانت باقي المكونات المجتمعية السورية تجتاز هي أيضا فيه، عملية مخاض وتحول في بنيتها الاجتماعية، خاصة في موقفها الانتقادي إزاء نخبها التقليدية.

ذكرنا سابقا، كيف أن الدولة حاولت خلال هذا الطور أيضا، اتباع سياسة كسب القلوب، "وإنزال الناس منازلهم"، لضمان ولاء مختلف الفئات، ومن أن الدولة في سوريا تاريخيا لعبت على الدوام دورا حاسما في تشكيل الشرائح المجتمعية المختلفة، انطلاقا من "أعلى الهرم المجتمعي"، وليس بالعكس.

حدث هذا "الانفتاح" على المكونات المجتمعية الأخرى، من خلال الدور الذي قامت به السلطة، كمنسقة رئيس للأنشطة الاجتماعية، وكموزعة أولية للثروة الوطنية. منتقلة بذلك، من الوضعية الدفاعية عن المصلحة المشتركة لجماعتها على النطاق الأضيق، إلى حالة الهجوم على طول جبهة المجتمع. معتمدة في ذلك، على طاقم يبرع في المناورة على "الخطوط الداخلية"، كما يمهر في تسخير أجهزة الدولة في مجال علاقات السلطة مع باقي البلد.

في إشارة سريعة إلى البنية الاجتماعية القائمة حاليا في سوريا، يمكن القول من أن "البورجوازية" السورية التي تضم شرائح اجتماعية مختلفة من داخل وخارج العصبية الحاكمة، كانت قبل الثورة وما تزال في طور ما قبل الحداثة. هي تدين بازدهارها النسبي وفي المقام الأول للدولة الإطار التي أغدقت عليها الريوع المالية لكسب ولائها. دولة هي نفسها دولة ريعية، استوعبت خلال عقود الأموال الخليجية قبل أن تقتات حاليا من أموال الشعب الإيراني. دولة انحصر همها الأول في كيفية "إعادة تخصيص موارد الخزينة العامة" وتوزيعها على مريديها، وشركائها المقربين، بدل أن تهتم قبل كل شيء بإدارة اقتصادية أمثل للطاقة الانتاجية في الاقتصاد الوطني. هذه الطاقة الانتاجية للبلد وبنيتها التحتية التي كانت السلطة الحاكمة مؤخرا على رأس من قام بتدميرها، حتى لا تقع في حال هزيمتها بين أيدي عصبية بديلة، وكذلك طمعا إذا ساعدتها الظروف وانتصرت، في أن تعود وتكون هي أول المستفيدين من إعادة إعمار البلد:

أولى شرائح "البورجوازية السورية" هم من "رجال الأعمال"، من التجار والصناعيين من أبناء عائلات الوجهاء التي كانت ذات نفوذ في السابق. من نجا منهم من الاصلاحات الاقتصادية ولم يهاجر إلى الخارج، بقي يفاخر وأقرانه، من أنهم هم الذين يشكلون ما يدعى ب "البورجوازية الوطنية"، مستثنين من ذلك غيرهم من الشرائح التي تشكلت في كنف الدولة السلطوية المعاصرة في سوريا. كانوا يتعاملون عشية الثورة مع غيرهم من النخب البورجوازية المستحدثة، من خلال الحاجة والمصلحة المتبادلتين، لكن بحذر ويقظة، وبشيء من الصلف.

نشأت شريحة ثانية من رجال أعمال، من أصول مجتمعية أكثر تواضعا من تلك لأفراد الشريحة السابقة. أفرزت سياسات ما عرف ب "الانفتاح الاقتصادي" هذه الشريحة التي يمكن وصفها، مع تحفظ كبير، بأنها هي "الطبقة الوسطى الجديدة". تشكل لدى بعض أفراد هذه "الطبقة" نوع من "الوعي الطبقي"، حاولوا التعبير عنه دون جدوى. إلا أن العديد من أفراد هذه المجموعة تعاون مع الطغمة الحاكمة الفاسدة، آملين أن يلتحقوا يوما ما بصفوف الشريحة العليا من الأغنياء الجدد. لم تمنع لهجتهم التوافقية، ودعوتهم إلى "التناغم الاجتماعي"، واستهجانهم للانتفاضة الشعبية بحجة أنهم "كنا سابقا عايشين منيح"، عن استمرار كونهم أدوات طيعة بيد السلطة. استفادت هذه الشريحة من بوادر نشوء "مجتمع استهلاكي" في سوريا غداة إقامة حركة للتصدير إلى بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، في مرحلة أولى. تلتها في مرحلة لاحقة، إقامة مشاريع مشتركة joint-venture، وأخرى لصناعات رديفة، بالتعاون هذه المرة مع دور ومجموعات فرنسية، وإيطالية وأخرى ألمانية. كما نشطت مجموعة أخرى من هذه الشريحة في المجال الزراعي، عن طريق استئجار أراضي الفلاحين المستفيدين من الإصلاح الزراعي، بتواطؤ مع السلطة الحاكمة، مستغلين بذلك عجز الفلاحين عن اقتناء الوسائل التقنية، والحصول على القروض المالية اللازمة لهم لاستغلال أراضيهم. بينما انهمك أفراد آخرون من هذه الشريحة في حركة المضاربة على العقارات التي ارتفعت أثمانها إلى مستويات لا تتناسب مع القوة الشرائية للفرد السوري، مستفيدين من الوضع الاستثنائي الذي نشأ بعد احتلال العراق قبل الثورة، ليتابعوا بعد الثورة الاستفادة من الوضع الكارثي الذي نشأ نتيجة الحرب الأهلية.

أما الشريحة الثالثة، فتلك التي رأت النور عبر المساعدات المالية التي قدمتها دول الخليج العربي لسوريا بعد حرب 1973. هي الشريحة الاجتماعية الأكثر تماسا وارتباطا بالدارة المالية للبلد، وهي بالتالي كانت الأكثر التصاقا بالسلطة الحاكمة. استفادت هذه الشريحة أكثر من سابقتيها من عمليتي "الانفتاح" الاقتصادي اللتين أجراهما النظام عام 1973 وفي أواخر أعوام الثمانينيات. جرى ذلك بشكل رئيسي عندما سمحت لهم السلطة من لعب دور الوسيط الذي ساعدهم على إقامة علاقات مباشرة مع أجهزة الدولة المختلفة. مما مكنهم، من لعب دور شبه احتكاري عند البدء في إقامة مشاريع البنى التحتية التي أطلقتها الدولة منذ العام 1973. إضافة إلى ذلك، قامت هذه "الطبقة" الجديدة منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي بتنويع أنشطتها التجارية، والاستثمار في مجالات العقارات، و أعمال البناء، وفي الصناعات الغذائية والدوائية، وفي قطاعي السياحة والنقل.

تشكل الشريحة العليا من هذه "الطبقة" المستحدثة، نوعا من فئة "وجهاء الحكم". هي تقابل تقريبا ما عرف أيام الدولة المملوكية ب "أفراد الحلقة". أي، نوع من "مجلس إدارة" الدولة المملوكية الذي كان يرأسه وقتها السلطان المملوكي. مكن ذلك هذه الفئة من تعزيز مكانتها الاجتماعية في الدولة، و من تبوء موقع مفصلي فيها، لعب دور رقبة جسر يصل في ما بين جهاز الحكم الإداري للسلطة والدارة اقتصادية للبلد. من رحم هذا التقاطع الحاصل الذي واكب منذ البداية ترسيخ الحكم الحالي، ولد ما اشتهر في الأدبيات الاقتصادية تحت اسم "المجمع العسكري- الميركانتيلي". أي، ذلك القطاع الصناعي والتجاري الذي يكون بإدارة وتوجيه من قبل الدولة. تربع على رأس هذا المجمع، كما هو معروف، أقرباء الرئيسين السابق واللاحق، وأبناء كبار مساعديهم، والمتقاعدين من كبار العسكر، على سبيل المثال لا الحصر الذين هيمنوا على الحياة الاقتصادية للبلاد طيلة اربعة عقود ونيف. تماما، كما كان حال ما عرف بقطاعات "الصنائع وأصحاب الوكالات"، أيام الدولة المملوكية.

نشأ هذا التطور نتيجة ل"الانزياح" النسبي الذي أشرنا إليه سابقا في عصبية النظام تحت تأثير متطلبات الاقتصاد المديني أو الحضري، وتحولها إلى "عصبية الأمصار" الخاصة ب "العمران المدني. جرى ويجري كل ذلك في إطار حتمية "الدورة العصبية"، حسب المفهوم الخلدوني. اتجه النظام خلالها إلى استبدال متدرج من حالة الاكتفاء ب "التفسيرات الطائفية والرمزية الباطنية" لعصبيته، إلى وضع يعتمد أكثر على روابط مجتمعية تقام مع الآخرين على أساس المصالح المادية المشتركة والبراغماتية، أي الأكثر عملياتيا. لكن، أيضا كما أشرنا سابقا، دون أن تفقد هذه العصبية طبعها الصدامي و"العشائري" ما قبل الحضري الذي عاد ليطفو على السطح عندما انطلقت انتفاضة 2011، كما سنرى لاحقا.

هذا بما يخص تركيبة طبقة "الخاصّة" في المجتمع السوري المعاصر. أما ما يخص الطبقة الأوسع والأكثر عددا، أي طبقة "العامّة" من فلاحين، وعشائر، وعمال، وموظفين وصغار الكسبة، وأصحاب البسطات والدكاكين، نذكر هنا أيضا في عجالة، بعضا من شأنهم:

نخص بالذكر هنا فئة الفلاحين التي تتصدر طبقة "العامة" عددا، والتي لعب بعض أبنائها منذ انقلاب 13 آذار عام 1963، دورا مهما، سلبا وإيجابا، في تاريخ سوريا المعاصر. هل يعني هذا الكلام أن من وصفهم ابن خلدون بأنهم كانوا "مستضعفين وأهل عافية" قد أصبحوا الآن خلاف ذلك، بعدما أصبح بعض من أبناء من وصفهم أيضا ب"البدو المزارعين المغلوبين لأهل الأمصار" يحكمون البلد؟ أليس في هذا القول ما يخالف طرحنا عندما قلنا في مطلع البحث، من أن الدولة الإطار في سوريا، هي التي لعبت على الدوام، وما زالت تلعب، دورا حاسما في تشكيل الشرائح المجتمعية المختلفة، انطلاقا من "أعلى الهرم المجتمعي"؟

يخال المرؤ للوهلة الأولى، من أن ما جرى هذه المرة ولأول مرة في تاريخ البلد، هي عملية انبعاث انطلقت بالفعل من "البناء التحتي" للمجتمع السوري، أو بالأحرى من بعضه، لتفرز من لدنه نحو الأعلى النخبة التي تحكم البلد الآن، بعد أن تم التوافق بشأنها، ولترتهن بمشيئته.

الواقع، هو أن الفئة التي تحكم سوريا منذ نصف قرن هي التي فرضت نفسها من فوق خلال "طفرة" تمكن خلالها أفراد العصبية الناشئة من الاستيلاء على السلطة، وليست هي القاعدة الفلاحية على امتداد سوريا التي أفرزتها بواسطة انتخابات "ديمقراطية"، أو ما شابه.

بذلك، لم تتغير طريقة عمل الدولة السلطوية المعاصرة عما كانت عليه أيام المماليك. اللهم، سوى أن المماليك كانوا من العبيد الغرباء عن البلد الذين اشتراهم أسيادهم الحكام من أسواق النخاسة، فثاروا عليهم في نهاية الأمر، واستولوا على مقاليد الحكم منهم في مصر والشام. أما السلطة الفئوية الحاكمة حاليا في سوريا، فأفرادها من أبناء البلد الذين استولوا، هم أيضا، عنوة على السلطة وما يزالوا يحكمون دون تفويض:

شاهدت سوريا منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى عشية الثورة تبدلات كبيرة في بنيتها الاجتماعية وتوزع السكان فيها. ارتفعت خلالها نسبة السكان المدينيين، أي "الحضر" بالتعريف الاحصائي الحالي، من 37% إلى 53% من مجمل سكان القطر. بينما انخفضت نسبة سكان الريف من 63% إلى 47% خلال نفس المدة، في إشارة واضحة إلى تدفق أهل الريف إلى مدن المحافظات السورية المركزية، وإلى أريافها التي تقع في ضواحيها. على سبيل المثال، شاهدت محافظة ريف دمشق حيث تجري حاليا المعارك الشرسة بين النظام والمقاومة المسلحة، خلال الفترة المشار إليها هجرة من جميع المحافظات إليها، خاصة من مدينة دمشق باتجاه مدن وبلدات الغوطة، مثل حرستا، وجوبر، ودوما. نذكر بهذا الصدد، دون الخوض أكثر في لغة الأرقام، أن نسبة السكان الحضر في ريف دمشق ارتفعت في الفترة بين عامي 1960 و 2004، من 1,6% إلى 12,7%، من مجمل سكان القطر. هذا مع الأخذ في عين الاعتبار، من أنه ليس كل من انتقل من الأرياف للسكن في المدن، أصبح مدينيا بين عشية وضحاها. هو ينقل تركيبته الريفية معه لتبقى ملاصقة له خلال مدة تقصر أو تطول، وربما لعشرات السنين. يقودنا ذلك للإشارة، إلى أن حركة "الترييف" السريعة التي جرت في مختلف المجالات الحياتية التي صاحبت مجيئ البعث للحكم، قد أحدثت خللا في التركيبة المجتمعية للمدن السورية الكبيرة منها، والمتوسطة. خاصة، أنها كانت أساسا ما تزال هشة ونصف ريفية حتى في بعض أحياء المدن الكبيرة، ولا تحاكي تركيبة المجتمع الطبقي المتماسك والمتمايز إلى حد كبير لمثيلاتها في الدول المتقدمة. ينعكس ذلك حاليا، من خلال ما شاهدناه يجري في بعض المدن السورية مثل حمص، وحلب، وحاليا في دمشق، من معارك تجري بين أحياء المدينة الواحدة التي تتبع عصبيات مختلفة.

بشكل عام، يمكن القول بأن الفلاحين السوريين يتدرجون في قوة روابطهم العشائرية، كما في عصبياتهم، حسب المناطق المتواجدين فيها. ففلاحو الغوطة و"أهل العود" في منطقة إدلب، ومن يعيش منهم في جوار حمص وحماه وحلب في بساتين الفاكهة أو في جوارها، وكذلك حال مزارعي الساحل من العلويين، هم في اغلبهم دون انتماءات عشائرية متجذرة. لكن ليس ذلك حال الفلاحين في سهول حوران، وجبل الدروز، وجبال العلويين. كذلك الحال في منطقة الجزيرة السورية، على الرغم من أن البداوة في تناقص في كل مكان من أنحائها نتيجة تفكك التنظيم العشائري، وسياسة التوطين الحكومية. لا يزال الفلاحون هنا يحتفظون بألقابهم القبلية، ولا يزال الكثيرون منهم يعيشون على أراضيهم القديمة، وما زالت عصبياتهم القديمة حية تتحين الفرص لتنطلق من جديد.

فلاحو سوريا متمايزون أيضا بانتماءاتهم الدينية. أغلبيتهم من أهل السنة وينتشرون في كل المحافظات في ما عدا في محافظتي اللاذقية والسويداء. وهناك فلاحون إزيديون ناطقون بالكردية في حوض نهر عفرين، في شمال غرب حلب، وعلويون، وشيعة إماميون في الست زينب بالقرب من دمشق، وآخرون منهم في بعض مناطق حلب، وإسماعيليون في سلمية ومصياف، ودروز في جبل الدروز وفي شمال غرب حلب. إلا أن أكثرهم عددا هم المسيحيون، والقسم الأكبر منهم روم أرثودوكس، وسريان، وروم كاثوليك. يبقى أن عدد الفلاحين العلويين يفوق بدوره عدد الفلاحين المسيحيين.

عموما، أدى التغير في الوضع الاجتماعي للفلاحين منذ مطلع الستينيات، نتيجة الطرق الجديدة في الزراعة، وتحسن نسبي في الرعاية الصحية، والخطوات الواسعة في مكافحة الأمية، وازدياد التعليم، إلى نمو تقبلهم للأفكار الجديدة المطروحة على الساحة السياسية. تقاطع هذا التطور مع استلام حزب البعث للسلطة عام 1963. يقول منيف الرزاز الذي كان أمينا لحزب البعث يومها، "وكما فعلت اللجنة العسكرية في الحزب المدني، فقد أدخلت الكثير من الأعضاء في التنظيم دون أي توجيه حزبي سابق، بسبب من قرابتهم أو صداقاتهم أو انتمائهم العشائري". كان الرزاز يشير بذلك، إلى سلوك الأعضاء العلويين في اللجنة العسكرية.

كانت نواة اللجنة العسكرية خلال الفترة 1960-1965 بكاملها ريفية المنشأ وتنتمي مذهبيا إلى تشرذمات الإسلام الشيعي. طبقيا، كان عشرة من أصل تسع عشرة من أعضاء اللجنة العسكرية عشية انقلاب آذار 1963، من الوجهاء القرويين أو ينتمون إلى الطبقة القروية الوسطى بمختلف شرائحها. لكن أحدا منهم لم يكن ينتمي إلى الطبقة الدنيا الفلاحية من مرابعين أو من المحرومين من ملكية الأرض. كما بدأت منذ آذار 1964، عمليات تطهير واسعة في القوات المسلحة توجت عشية حرب 1967 بطرد ثلث سلك الضباط في الجيش، واستبدالهم بأفراد من الاحتياطي، جلهم تقريبا ريفيون من معلمي المدارس. شاهد هذا الترييف الكثيف للقوات المسلحة صعود الضباط العلويين إلى أعلى المراتب العسكرية.

أما الذي جعل هيمنة الضباط العلويين ممكنة، فهو أنهم كانوا في أغلبيتهم قرويي المنبت وينحدرون من منطقة جغرافية واحدة. أي، أنهم كانوا عصبيا متجانسين أكثر من سواهم، كما كانوا عقائديا يبدون للوهلة الأولى أكثر تلاحما. كانوا إما بعثيين أو كانوا يدّعون ذلك. لاحقا، كانت الصراعات التي نشأت بين الضباط العلويين، صراعات إما على مستوى نزاع شخصي، أو نشأت نتيجة تباين في وجهات النظر، أو لحساسيات عشائرية دون أن تحدث شرخا لديهم في العمق يمكن أن يهدد سيطرتهم. بالمقابل، كانت الانقسامات التي حدثت بين زملائهم من الضباط الذين يمثلون الأكثرية السنية في البلد، ذات معنى بنيوي أعمق. كان منهم ضباط ريفيين وآخرون مدينيين يتنافسون ضمن سياق الصراع المديني-الريفي القديم في سوريا. كان الدمشقيون والحمويون منهم الأكثر تميزا سياسيا. كذلك، كان حال مجموعتي دير الزور وحوران بين الضباط الريفيين. عقائديا، كان بعض من الدمشقيين ناصريي الانتماء، بينما اصطف أغلبهم مع الانفصاليين. طبقيا، كان منهم من هو بورجوازي المنشأ، أو من جماعة الإخوان، إلى جانب يساريين مستقلين ينتمون إلى مختلف شرائح الطبقة الوسطى. عملياتيا، ساعد الضباط العلويين إلى أبعد الحدود في هذا الصراع تبوؤهم للمراكز الحساسة في اللجنة العسكرية، وفي التنظيم العسكري لحزب البعث. مكنهم ذلك قبل كل شيء من التصرف في مرحلة أولى بوصفهم بعثيي الادعاء لا كعلويين. ساعدهم في ذلك أيضا سيطرتهم على الوحدات الضاربة في الجيش، من طيران، وصواريخ، وألوية مدرعة، تمركزت في العاصمة وحولها، فضلا عن هيمنتهم على أجهزة المخابرات. بالمقابل، وبالرغم من حملات التطهير المتتالية في الجيش بقي فيه الكثير من ضباط السنة الذين سمح لهم بأن يستمروا يخدمون فيه كأفراد لا كجماعة أسوة بزملائهم العلويين، وبالمعنى الاحترافي وليس السياسي. فكان منهم حتى رؤساء أركان، ومنهم من عمل في التوجيه المعنوي، وآخرين كطيارين، وكمهندسين، وإلى جانب كل منهم تموضع من كان يراقبهم من قبل "حكومة الظل".

لم يقتصر الترييف الكثيف على القوات المسلحة، بل تعداه إلى الجهاز الإداري للدولة. كان الكثيرون من الموظفين الحكوميين الجدد، إن لم يكن أغلبهم، خاصة منذ منتصف السبعينيات وما تلاه، من خلفيات ريفية. لم يتورعوا عن إظهار عدائهم تجاه المجتمع المديني في المدن الكبيرة خاصة. اشتكى يومها اللواء صلاح جديد رئيس الأركان قائلا إن وجود الحزب "ضعيف جدا في المدن الكبيرة"، ومن أن معظم قادة الفروع في هذه المدن كانوا من الريف وعاجزين عن بناء "تنظيم حزبي حقيقي قادر على تحريك وقيادة تلك المدن". اضطرت السلطة يومها في الستينيات إلى إحضار كتائب فلاحية من الريف عملت تحت اسم "الحرس القومي" على مواجهة التظاهرات، والاضطرابات، التي اندلعت في حماه، وحلب، ودمشق.

من جهة أخرى، صاحب استيلاء حافظ الأسد على السلطة في مطلع السبعينيات انتشار الشعور، خاصة بين الفلاحين أو من كان من أصول ريفية، من أن أفضل وسيلة للارتقاء في السلم المجتمعي، هو الانتساب لحزب البعث. تعمق هذا الشعور خاصة بين العلويين الذين تولدت لديهم القناعة من أن حزب البعث يمثل فعلا مصالحهم. ازداد تركهم لأراضيهم في تلك الفترة، وأخذوا يتدفقون إلى البلدات والمدن بأعداد كبيرة بحثا عن فرص أفضل للعيش. توجهوا للعمل خاصة في القوات المسلحة وعى رأسها في تلك الوحدات المرتبطة بالنظام سياسيا. حصل هذا التوجه خصوصا بين علويي الجبال أكثر منه بين علويي السهول لعوزهم، بسبب تدني جودة أراضيهم، وقلة مداخيلهم منها، على الرغم من وصول الكهرباء إلى قراهم، وما حققوه من مكاسب أخرى. صحيح أن الأسد كان أول حاكم لسوريا من أصول فلاحية، إلا أن قاعدة سلطته كانت في جوهرها، وتميزت، في كونها أولا فئوية علوية. انعكس هذا الوضع على حكم الأسد الأب في النصف الثاني من السبعينيات وخلال النصف الأول من الثمانينيات، وولد مناخا سياسيا مشحونا بالانقسام الطائفي على مستوى القطر. استغل الأسد خلفيته القروية ليحكم قبضته على التنظيمات الفلاحية مع السماح لهم بهامش واسع من الحركة لمعالجة شؤونهم الخاصة التي تتعلق بالنواحي الفنية للعمل الزراعي، وفي إدارة جمعياتهم، مقابل الالتزام بالولاء لشخصه، وبشكل عام بسياساته، وبخطط القطر الاقتصادية. كما استغل خلفيته القروية ليزيد من تفرده بالسلطة، والتحول بها إلى سلطة وراثية له ولأولاده. لم يمنعه أصله الفلاحي من التصريح بصلف بورجوازي، من أن مواطنيه العاديين ليسوا سوى كائنات اقتصادية يسعون وراء "أمور العيش"، حسب التعبير الخلدوني، ومن أنه يمكن أن يرضيهم "بشكل أو آخر"، لكنهم كانوا باعتقاده لم يخلقوا للسياسة. هناك "مئة شخص أو مئتان بالكثير" يتعاطون جديا بالسياسة، وهؤلاء، كانوا برأيه، لا يمكن إرضاءهم مهما فعل من أجلهم. هنا خلص الأسد الأب للقول، من أن "سجن المزة مبني أصلا من أجل هؤلاء". بمثل هذه العقلية المملوكية، حكم أول حاكم من أصل فلاحي سوريا، وابنه بشار من بعده.

في إطار سياسة "الإرضاء" هذه، وبينما كان الأسد الأب يتحدث عن علمانية حزب البعث الذي كان هو أمينه العام، كان يتملق رجال الدين عند الأكثرية وعند الأقليات على حد سواء. ربما كان يظن يومها بأن حكمه يكتسب بذلك شرعية أكبر، خاصة عند أبناء الأكثرية الذين طبعوا سوريا بميسمهم منذ الفتح الاسلامي. ازدهرت في أيامه إقامة المساجد أكثر من أي وقت مضى. كما سمح النظام بإقامة معاهد لحفظ القرآن، وبإنشاء جمعيات أخرى، من خيرية دينية وغيرها، مثل ما عرف ب "القبيسيات" التي كان النظام يغض الطرف عن أنشطتها. حدث كل ذلك، بينما كان النظام بالمقابل يمنع أي نشاط سياسي أو فكري آخر، خارج نطاق الحزب الواحد.

أدى هذا المزج المتعمد بين "السياسة والدين" إلى تلك التفاعلات السلبية والمتلاحقة التي جرت أيام الأسد الابن عند اندلاع الثورة عام 2011. أطلق النظام في مرحلة أولى من سجونه أصحاب السلفية الجهادية الذين قامر على التحاقهم بالكفاح المسلح ضده، وهو ما حصل. ساعده ذلك على اتهام من قاموا بالثورة ضده بالإرهاب، بعد أن سحق النظام في مطلع الثورة عناصرها الديمقراطية، ووقوعها لاحقا في قبضة الاسلام السياسي، تحت رعاية اقليمية ودولية.

هرم الدولة "الأسدية"

أشرنا أعلاه عن كيف صنّف ابن خلدون الدولة. على ذلك، يمكن خلدونيا دعوة النظام الحالي في سوريا بالدولة "الأسدية" إلى حين أن تتم دورتها "العصبية" الحالية، بعد فترة تطول أو تقصر.

لسنا هنا، عندما نتكلم عن ملامح هرم الدولة الأسدية، بصدد وصف ما جرى ويجري فيها من قتل وتهجير وتدمير، وبالتفصيل. كل منا شاهد ويشاهد شريط الأنباء اليومي المحزن وما آلت إليه أمورنا في سوريا، كتابة وصوتا وصورة. ما يهمنا هنا، مسترشدين بآلية البحث والتحليل الخلدونية، هو تحديد مقدار هرم دولة العصبية الحاكمة حاليا في سوريا:

قلنا في مطلع البحث أنه من أهم المؤثرات التي طبعت وما زالت تطبع الأمة العربية هو ذلك المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه، السياسة والدين بمفهومه الواسع، حتى ما اتخذ منه ستارا وقناعا. وهو ما يحصل حاليا على الأرض السورية. هناك من جهة عصبية الدولة الأسدية التي تتستر خلف الاسلام الشيعي، وقاعدته إيران السلفية وأتباعها على طول المنطقة بدءا من أفغانستان وحتى إلى لبنان نصر الله الذي صرح مؤخرا من أنه يقاتل في سوريا من أجل التشيع وليس من أجل بشار، ومن أنهم يتابعون في معركتهم الحالية حربا كانوا قد بدأوها منذ أربعة عشر قرنا ضد التكفيريين! أما القطب الثاني للمواجهة والمتستر خلف الدين، فالسعودية الوهابية التي تواجه إيران الشيعية على الأرض السورية من خلال فصائل مسلحة يقودها أمراء حرب. إضافة، إلى جهاديي "داعش" و"النصرة" من مخلفات "قاعدة" بن لادن أيام الحرب الأفغانية، يوم سخرت المخابرات الأمريكية هناك الوهابيين لمحاربة السوفييت. وهناك أيضا عربا وأكرادا وتركمانا من مخلفات "الجيش السوري الحر"، وعصبياتهم المختلفة في مواجهة عصبية الدولة الأسدية.

سياسيا وباختصار، أدت النكسات المتتابعة منذ كارثة فلسطين، واحتلال العراق، وانتهاء بتطييف الدولة السورية، وتقسيمها مؤخرا إلى إمارات طائفية وأخرى اثنية، ومناطق إدارات مدنية محلية، ورهن مستقبل البلد بمعاهدة تحت الانتداب الروسي، واحتلالات أجنبية في شمالها وجنوبها وشرقها، إلى تأكيد عودة "المكبوت" في صوره الطائفية، والدينية المتطرفة، والعشائرية، والاقتصاد الريعي أكثر من أي وقت مضى، ليجعل من حاضرنا فعلا مشابها لماضينا.

يشير ما تقدم إلى ما يكفي من دلائل، على وقوع الدولة الأسدية في مرحلة الهرم، بالرغم من عودتها بفضل الدعم الخارجي لها، إلى بسط سيطرتها من جديد على مناطق كانت قد خرجت منذ الثورة عن سيطرتها. هذا يعني، أنها ما زالت قادرة على المسير، ولم تعجز بعد عن التحرك. أي، انها لم تصل بعد إلى آخر مرحلة من طور هرمها. لأن سرعة نهايتها تتوقف على نوعية الظروف والأحوال القائمة. واضح من جهة، أن المطالبين بوراثتها أضعف قوة حاليا منها. كما أصبح واضحا من جهة أخرى، من أنها ستجابه، أسوة بما جرى من قبل في أفغانستان، والعراق، وما زال يجري، مرحلة استمرار حرب العصبيات الثائرة عليها، لأن النصر فيها ما يكون ب "المطاولة لا بالمناجزة"، كما يقول ابن خلدون.

خلدونيا أيضا، هناك لكي تتم الدورة العصبية شرطان لهرم الدولة وزوالها: "فساد عمرانها"، ووجود عصبية جامعة بديلة. أي، وجود وضع ثوري، ووجود تنظيم جماهري ثوري كذلك، يقود الثورة عليها:

تعرضنا أعلاه تحت عنوان "الملك بالجند والجند بالمال" إلى مراحل "فساد عمران" الدولة الأسدية منذ نشأتها، وإلى ما آلت إليه أمورها. ذكرنا كيف تم الاستيلاء على الحكم من خلال "طفرة"، وليس عن طريق انتقال طبيعي للسلطة ناتج عن تطور تدريجي، وتحسن مطرد في ظروف "الإنتاج" في المجتمع ووسائله. شكل هذا العنف الطفروي الأساس التي قام عليه "عمران" الدولة الأسدية عندما استولت عنوة على الثروة الوطنية بقوة السلاح. كما أن "الطفرة" في الاستيلاء على السلطة هو ما خلق "التوحش الذي استحكم فيهم" كما يقول ابن خلدون. هذا التوحش الذي استحكم في "شبّيحة" النظام من مختلف الطوائف والأعراق، يقع في أساس الوحشية التي قابلوا بها ثورة عام 2011 على السلطة وحتى الآن، وما تولد عنها من ردود فعل هي أيضا متوحشة. كنا ندعوا ذلك في السابق ب "العنف الثوري" مختلقين له الأعذار،ولتمييزه عن عنف السلطة الحاكمة، أو عنف المحتل الأجنبي. حتى جاءت وحشية داعش، ووحشية أقبية النظام، لتعريان أي عنف يرتكب بحق المستضعفين كائنا من كان.

"حتمية" واحدة كانت عند ابن خلدون، هي "طبائع العمران"، وما يمكن دعوته أيضا ب"الحتمية العمرانية"، التي من خلالها، تتحكم فيها، وتشخصها في حركة دورية عملية قيام الدولة وسقوطها. كما تتحكم فيها، وإلى حد بعيد، مجموع المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والطبيعية، التي ترافق هرم الدولة و"تلازمه ملازمة العلة والمعلول". واضح من ذلك، أن سقوط الدولة لا يتم إلا بالثورة عليها. أي أنها تنبع من "الحتمية العمرانية". وشرط نجاحها يكمن أولا في وجود وضع ثوري، أي في مثل حالتنا هرم الدولة الأسدية التي ما زالت واقفة بعد تترنح، ووجود تنظيم ثوري يعبئ وراءه غالبية الشعب السوري، وهو ما زلنا بعد ما نفتقر إليه، وإن إلى حين.

ختاما، ربما من سيسأل ألا توجد في مثل حالتنا سوى "الثورة"، وقد أثخنا جراحا بعد سبعة أعوام مريرة؟ ألا توجد طريقة أخرى لكسر "الدورة العصبية " الخلدونية؟

نظريا، ربما بلا:

عندما لا يعد بإمكان من يجلسون "فوق" فعل ما اعتادوا عليه حتى الآن، وإلى أن يكف الذين يتربعون "تحت" عما كان يريدونه من قبل.

بكلمات أخرى: حتى يصبح ماضينا منفصلا عن حاضرنا، علينا تحديث المعطيات أو المحددات الخلدونية، بإحلال البدائل التاريخية المعاصرة لها: تحويل الدولة "الإرادية" إلى دولة القانون، وتحويل مجتمع العصبيات إلى تنظيم مدني وسياسي واجتماعي متقدم، وتحرير الفكر العقائدي، دينيا كان أم علمانيا، من أكباله الطائفية، أو الفئوية، أو من تلك الثوابت الفكرية المطلقة فيه، وتحويل اقتصدنا الريعي القائم في أغلبه على صادرات المواد الخام، وعلى الصناعات التحويلية، إلى اقتصاد انتاجي.

 

مع ذلك، يبقى السؤال مطروحا، أيمكننا فعلا القيام بكل هذه الأعباء الجمة دون ثورة؟

 

Last Updated on Thursday, 03 May 2018 16:30
 

Promotion 1963

MLFcham Promotion 1963

Giverny - Mai 2004

MLFcham Giverny - Mai 2004

Athènes - Oct 08

MLFcham - Athènes - Octobre 2008

Promotion 1962

MLFcham Promotion 1962