ظمئ الشرقHind Nouri Obiedin |
![]() |
![]() |
![]() |
Written by Amin ELSALEH |
Friday, 27 January 2017 14:03 |
ظمئ الشرق هند نوري عبيدين
في هذه الأيام لا أدري لما تحضرني حلقات الذكر الدرويشية، فكلما هربت من التفكير بها، تعيدني بقوة إلى مسارحها لتدخلني في طقوسها.. وكلما حاولت الخروج من دائرة الدوران أرغمتني إيقاعات النقر على مطّ ذراعي نحو الأعلى لأعانق اللاشيء وأدور وأدور. أرفع رأسي نحو السماء أبحث عن شيء ما، في مكان ما، وزمان ما، روحي ترفرف كفراشة درويشية تتراقص مثلي وتدور على إيقاعات روتينية فتدور وتدور، وأدور. هل أنا أدور أم الكون من حولي هو الذي يدور.. لا أعلم!!.. أمد يديَّ أحاول التقاط شيء ما، فلا أرى إلا ألوان تمازجت واختلطت فتماهت ولا شيء إلا الأحمر.. كل ما حولي راقص متحرك، صاعد، نازل، يدور ويدور، وأنا وحدي أعانق اللا موجود وأدور.. أدور.. وأدور.. مصلوبة اليدين أنا، عواصف عمري تحملني ولا أدري إلى أين، تعوي الذئاب من حولي، تحاصرني، وأنا على أنغام عويلها أتراقص ما بين بين..أهي الذئاب يا أبتي أم هم أخوتي الذين رموني في غياهب الجب مكتوفة اليدين؟!سماؤنا يا أبتي تنعي قمرها، وأرضنا تبتلع ترابها، ونساؤنا كالقطط تأكل أولادها.. فمن بئر يوسف إلى بئر إرميا، إلى بئر دانيال إلى جب يونس في بطن الحوت بعشرين أو ثلاثين لا فرق عندهم يا أبتي..مجدلتني الأيام يا أبتي وتكاثرت عليَّ غربانها وأنا في هذه الأزمنة الرديئة أرقد في غيابة بئري يأكلني حزني والغياب..يا شام؛ ما عدت أدري كيف ضاع الدرب منا.. يا شام؛ ما أحوج قلوبنا الحزينة لدعوات الصالحين والأتقياء..يا شام؛ ما أثقل أحزاننا وما أشقى التمني.. غرباء نحن، غرباء نبحث عن ذواتنا فلا نجد ما يشير إلينا، تاه العمر منا وخاصمنا يا شام الكلام، الأرض ضاقت بالبشر فقتلتهم الظلمة وابتلعهم الظلام..أهلوك يا شام حيارى يمشون في صمت الزحام لا راحة تعرفهم ولا هم يعرفون السلام، صغار رضع عادوا من جديد ليكابدوا الآلام الفطام.. هو الليل يلفنا بصقيعه وتتصلب في حلوقنا الكلمات.. رؤوسنا تتكئ على جدران الأزمنة تخشاها المعارك والحراب..وأنا الحزينة المرمية على أرصفة الوطن سأمسك عن الكلام وسأصمت حيث الليل يواري وجوه الأبرياء والأطفال.. الموت يجتاحنا وصباحاتنا عهر وفجور وكربلاء، ليلنا طويل وأيدينا في العتمة تبحث عن أمل، وكثيراً ما تلقى الخواء.وفي الصمت ناديتك يا إلهي صارخةً أنا ما هدمتها أوزان العروض كي يحطموا كل أقفال بيوتي ويفتحوا عليَّ نار الخراب، فلما يا إلهي تركت وحوشهم تقتات أولادي؟!!!..يا بن أمي دع عنك القتال، وكفانا امتحان الدماء بالدماء.. الخوف يطاردنا في الأزقة والحارات وعواصف الحزن تطحن منازلنا لتغيب نهاراتنا في ليل البلاء..انهض يا رفيق آلامي؛ انهض أيها السوري كما ينهض الناي في مهّب العشق والدماء والغناء.. انهض.. تكلم.. انطق.. قل شيئاً.. أخاف من صمتك، وأخاف على صمتك. لوّح لي بمناديل الحرية كي أغفو وأطير مثل ضوء المرجان المتفجّر من نسغ زيتونة أو من سنبلة تتمخطر بكل جرأة بين النار والرصاص.كم يشرفني أن تتسلل حروفك، كلماتك، همساتك، صرخاتك، صمتك، وجعك.. فتخترق روحي لتتعرقها مساماتي..ستأتيك القادمات من الزمان وحينها سيُقال: حدثني جدك عن جدي عن أواخر النهار: .. كانت سوريا عروسة، وكانت تضحك من أعمق أعماق الممالك والحضارات، وكان ياسمينها يورق قصائد حب في كل الجهات..ظلموت يا وطني أن نكتب بالحبر الأسود على الورق الأسود قصيدة الصباح..هذا زمانك يا شآم والقرى فتحت أبواب صبرها وأبواب غفرانها بعضها على بعض، وأيقونة عشقها صبوة من أزاهر الياسمين والفل والبنسفج، تنوّر آخر ما تبقى من موقد الجمر والكبرياء.. وخلف الباب امرأة تتلو ما تيسر من قوافي الفتح والنصر والمعوذات وتتمتم بالدعوات لرب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف..هي الشام وحدها تحتضن عقيقها المبارك نصف من طين ونصف من دماء.فلا شيء بعدك يا عمري الأول، يا سفر تكوين الزمان، يا فيض الحضارات، يا نوارة الدهر.. لا شيء بعدك يا شآم إلا سدول الليل فوق الليل..أعطني يدكَ يا وطني، لنهرب من مرايا الجاهلية ومن حرائق الكره والكراهيات، أعطني يدك يا وطني لننهض كما ينهض الناي في مهّب العشق والدماء والغناء.. لننهض، نتكلم، ننطق، لنقل شيئاً، أخافه هذا الصمت..قلمي يستمدُ من دمي حبراً ليعبر عن دواخلي، وها أنا أرتشفُ قهوتي المنكهة بطعمِ القهرِ والألمِ والحزنِ المذاب، فنجاناً إثر فنجان، فقد أدمنتُ تذوق طعم الحسرة المطرزة باليأس والإحباط..فالخوفُ غطى الدرب والأرض تمضغُ حزنَها بعد أن غصّت بها الأوجاع وأنهكها العويل، والسماءُ تنزفُ جرحَها وتشيّعُ أقمارَها والفراقُ في أوج العناق والعناقُ في أوج الفراق؟!..كآبة تخنقني، مشاعرٌ مؤلمةٌ يتجرعُها قلبي، إحساسٌ جليدي يستنفرُ منه جسدي، لا أدري هل تضخم بي حزني فأصبحتُ أكبر من الوجودِ، أم ضاقَ بى الوجود فأصبح أصغر من حزني؟!!ولكني يا إلهي على الرغم من تكاثر مشاريع اغتيالي سأبقى سورية حرة حتى ألبس الأبيض من الأكفان، هذا صوتي حتى موتي ولولا خوفي من الرحمن لقلت: اتكئ على دمعتي حين علم آدم كل الأحزان، ولقلت: حب الوطن هو أول الأركان..وسأصرخ بوجه من رسم احتراقاتي بعشرين أو ثلاثين من طعنة في غلس الخيانة والظلام.. وحدك يا شام ستُكللين بالنصر والحرية والغار، فإما انطفأت شمس العروبة أو أفلت صهوات الريح، صار ليلك نهار.. ولا شيء بعدك يا شآم.. ظمئ الشرق فيا شام اسكبي..
|
Last Updated on Wednesday, 25 December 2019 11:52 |